يبدو شاعر الطفولة في حياته ناسكاً وفي شعره صديقاً للكبار وأباً للصغار، ترى أيكون هذا أحد أسباب غيابه عن الساحة الأدبية، أم إن السفر من أجل لقمة العيش جعلنا نعتقد ببعده وغيابه؟ كتب سليمان العيسى المولود في أنطاكية عام 1921الشعر وهو في التاسعة من عمره ولم تكن قصيدته الأولى كما يخيل للبعض عن الطفولة، بل كانت عن الكادحين من الفلاحين ومنها: ألا أيها الفقراء موتوا / لكم في جنة الفردوس قوت
لقد بنيت لكم ثم البيوت/ وكوثركم بها يجري شهيا
أغاني النهار
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تحول صاحب كتاب أغاني النهار إلى الكتابة للأطفال؟ يجيب الثائر على الاحتلال الفرنسي حد السجن على هذا السؤال معداً نكسة 1967نقطة تحول في حياته وشعره، حيث قال لمراسل (أو سورية) الذي قام بزيارته في بيته: توجهت بعد نكسة حزيران لكتابة الشعر للأطفال، لأني شعرت بخيبة أمل كبيرة من الكبار، وأحسست بأن الخطأ كان في تربيتهم وهم صغار ولم يحصلوا على الثقافة التي يجب أن يتزودوا بها ليستطيعوا مكافحة ومواجهة الصعوبات التي مرت بهم، وأردت أن أعوض عليهم وأعطيهم ما فات الكبار في وطننا، أوجدت لهم عالماً كاملاً من خلال ما كتبته لهم شعراً ونثراً ومسرحاً، يستحق صاحب جائزة (لوتس الأسيو أفريقية) للشعر لقب الرمز ليس لأن قصائده كانت ألف باء الأطفال اليافعين في المراحل الدراسية الأولى فقط، بل كذلك لأن شعره فيه الكثير من سلاسة وبساطة النثر ونثره فيه الكثير من الروح الشعرية والخيال الذي يتسم به الشعر ويبدو ذلك واضحاً في كتابه النثري والشعري (أحلام شجرة التوت) الصادر عن وزارة الثقافة عام 1990 والذي يبدأه بنص نثري عنوانه (من مرفأ الذاكرة) ويقدمه باعتراف ينضح بالوفاء كتب فيه: مراكب خمسة ما زلت أشعر أنها هي التي حملتني إلى هذا المرفأ، ومن حقها أن تتقدم هذا الديوان، المركب الأول كان اللغة حيث صوت.. يأتي الطفل سليمان من العلية يقول له: لن تخرج إلى اللعب مع رفاقك قبل أن تحفظ قصيدة، ويحدد الصوت القصيدة التي سيحفطها الطفل وهي: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي، ويشترط عليه ذات الصوت أن تكون القصيدة للمتنبي، وعلى الرغم من أن الشاعر ينوه على أن الصوت القادم من العلية هو لوالده الشيخ إلا أنه في الوقت ذاته أوحى للقارئ أن الصوت سرمدي قادم من الماضي العريق على اعتبار ألا مستقبل يعتد به بعيداً عن الشعر الأصيل واللغة الجميلة، لكن أوامر الأب الشيخ لا تنسجم مع رغبة ابن التاسعة الذي يسمع صوت أقرانه وهم يلهون ويصرخون في ساحة القرية وهذا ما يجعل الطفل الذي كان عليه سليمان العيسى في حالة برزخية تتأرجح بين القصيدة واللهو، ترى هل يريد سليمان العيسى بذلك القول: إن الطفل يحتاج إلى القصيدة كما يحتاج إلى اللعب فالطقس الأخير ينسجم مع طاقة الطفل المنفلتة التي تكون على شكل صراخ، ركض، ممارسة حركات طفلية غير مؤطرة، وها هو يعلن أنه يبز رفاقه في الركض والصراخ ولكن الأب سيجلس معه كل مساء ويسمع منه مقطعاً من قصيدة للمتنبي ومقطعاً من قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي، أما المقطع الثالث فيجب أن يكون من قصيدة لابن الفارض على أن يختم الطفل سهرته مع الأب بقصيدة لأبي فراس الحمداني وفي ذلك النهار المشمس تنتصر القصيدة ويجلس الطفل مع والده حتى يحفظ قصيدة المتنبي فيغنيها أمام الوالد:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
وللحب ماقد ذاب مني وما بقي
وما أنا ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
وحين ينتهي الطفل من غناء القصيدة يمرق كالسهم إلى الساحة ويغيب بين العفاريت الصغار.
ذات افتراق
يقودنا الشاعر بعد ذلك إلى المركب الثاني (الأرض)، والذي يبحر من مسقط رأس الشاعر، (النعيرية) ويجدف بنا عبر طريق رملي مع مجموعة من كتاب وشعراء عرب من كل الأقطار والقبائل باتجاه خيام تقع في قلب البادية ليحل بها الركاب ضيوفاً، وهناك وبين كثبان الصحراء كان يحلم بأن يلتقي مع ذكرياته القديمة التي كونتها معلقات امرئ القيس وعنترة العبسي وزهير والنابغة وطرفة ويأخذنا صاحب مسرحية (قطرة المطر) في هذا المركب إلى عالم الشعراء المتخيل الذي صنعته قراءاته المتنوعة ليعلن في نهاية رحلته هذه حنينه الأبدي إلى النعيرية فيقول: منازل كثيرة..وبقع كثيرة.. طوفت بها.. وزرتها على هذه الأرض، ولكنها جميعاً كانت ترتبط أبداً بالنسيج الأول، بالأرض التي درجت عليها وزرعت فيها أعوامي الأولى وأحلامي الأولى. بعد ذلك يستقر المركب في حلب مع (أنا وهي). كانت هي شهرزاد وكان هو شهريار وقصة عشق لم تأخذ من ألف ليلة وليلة إلا اسم البطلين والتزام كل منهما بالآخر لأجل الحب والكلمة وذات افتراق مؤقت كتب:
الضجر يأكلني..
هذه آخر مرة أسافر فيها وحدي،
ولو عدت من سفري بغنائم الدنيا.
إنه قراري في هذه الأمسية.
الهنيهة شهر..
والساعة دهر..
بدون من تحب..
يمر الوقت بطيئاً، خاملاً، كثيفاً
ترى ما جدوى اللغة والأرض وأنا وهي بلا حلم؟ ألن تكون تلك الأقانيم الثلاثة بعيداً عن الحلم بلا جمال بلا خيال بلا أمل؟ يمنحنا الشاعر المتعدد اللغات أجنحة قوية لنطير معه على متن مركبه الطائر (الحلم) لنهز معه الشمس ويدندن على مسامعنا:
كنا نحلم..
أنا سوف نهز الشمس
فتسقط في أرض الفقراء
بيادر من قمح وغلال
كنا نحلم..
ُُُُُُُثم قبضنا يوماً بعض الضوء،
لتُنسَف فيه أصابعنا،
ولنعرفَ أن الحلم محال
ُُُُُُُإني أحلم..
أن أرتشف باقي الكوب،
صديق فراشات وندى
أن أبقى في ضوء الشمس
وألا يخدعني حلمٌ أبدا
شجرة التوت
وقد يعتقد المسافر على متن هذه المراكب أو من يقف في مرفأ الشاعر الكبير أن صاحب جائزة البابطين للإبداع الشعري توقف عن الحلم أو أحرق مركبه الطائر وقد يفاجئ هذا القارئ المسافر بأن الكف عن الحلم هو إعلان موت دائم ولذلك يعلن مبدع (همسات ريشة متعبة) أن مجلداته الأربعة ليست إلا حلماً رائعاً، يقاتل ليتحقق، كلٌ منجزات التاريخ العظيمة كانت في يوم من الأيام أحلاماً عظيمة. من هذه القناعة انطلق شاعرنا العظيم وما زال مصراً على قناعته وأحلامه الصلبة لأن الحلم هو الصحة، والواقع الذي يحيط بنا هو المرض والمرض طارىء مهما طال ومهما استشرى، والصحة هي الهدف. وعن حلمه الوطني الخاص يقول: أنا طفل مشرد، من لواء اسكندرون، رأى نفسه يُقتلع من تحت شجرة التوت التي تظلل داره ويُلقى به في أحضان الغربة بعد اقتطاع بلده الصغير عن الوطن الأم، مسقط رأسه، ويضيف كنت وما أزال مديناً لحلمي بالعودة في كل ما كتبت وما فعلت ومن دون هذا الحلم لا أرى أي معنى لحياتي. وآخر المراكب كان (الأطفال) وفي هذا المركب يقول:
أغني لهم.. ولهم أكتب
لذا قلمي مورق
لذا دفتري معشب
ُُُُُُيجيئون مثل انبلاج السحر
ومثل خيوط المطر
يدقون بابي، يقولون شعري
وأفتح صدري
ومع رسو المركب الأخير في مرفأ الشاعر لابد من التنويه إلى أن صاحب كتاب (السفر الجميل) كتب عنه خارج سورية كتاباً بعنوان (ثمانون عاماً من الحلم والأمل) وكتاب (وقفات مع سليمان العيسى) إضافة إلى رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة نابولي الإيطالية، ومما قيل في شعر صاحب كتاب (حب وبطولة): شعر سليمان العيسى، شعر للحياة وشعر للشعر، أيقونة الشعر الطفولي يبقى حضوره في الساحة الأدبية والإعلامية بمطاف الرمز والأيقونة.