حب حتى الطلاق المميت
تورطت مروان مع بعض زملائه في جريمة تهريب الذهب والعملات الأجنبية إلى خارج البلاد بدافع الثراء السريع واعتقادا منه أنها ستكون العملية الأولى والأخيرة وبعدها سيقبر الفقر والى الأبد ويتحرر من العوز..
والاهم انه سيبقى بكل وعوده التي قطعها على نفسه تجاه العروس الحسناء بما في ذلك الشقة المريحة والسيارة الفارهة وسيعيش في ثبات ويخلف صبيان وبنات (وما حدا أحسن من حدا) ولكن مروان لم يكن يدري أن العيون المبثوثة والأذان المرهفة والأقلام المشرعة كانت له بالمرصاد فما أن باشر عملية التهريب حتى قلب الميزان ووجد يديه مكبلتين بالقيد وطريقه إلى سجن عدرا المركزي
حكاية فريدة
في السجن التقى مع من سبقوه وبجرائم شبيهة أو مماثلة فاللصوص كثر منهم من صدر الحكم عليه ومنهم من ينتظر والعاقبة هنا للتحقيق.
وفي السجن لم يجد مروان ما يروي غله فحكايا المحكومين والموقوفين تختلف تماما عن حكايته فهو رجل مازال عريسا لم يمض على زواجه من سعاد سوى عام واحد ولم يهنأ بعد في وصاله ما كان أصلا ليتورط في جريمته الاقتصادية لولا تلك الأحلام الذهبية التي سعى إلى تحقيقها إكراما لعيون سعاد.
كيف له أن يقضي خمسة عشر عاما ي هذه المهاجع المزدحمة وفي ردهات الدهاليز الرطبة التي توزعت أبواب الحديد المدعمة على طرفيها.
وجد مروان السجن عالم أخر لا يشبه أي شيء خارج أسوراه فإذا كان المثل يقول الصحة على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى فالحرية تاج على رؤوس الناس لا يعرفها إلا نزلاء السجون.
في السجن
في هذا العالم الغريب تسود أفكار وتقاليد وتحكم سلوكيات وقيم ليس لها مثيل في الخارج وعلى النزيل أن يتقبل الآمر ويتكيف مع شروط السجن شاء أم أبى.
لهذا بدأ مروان يروض نفسه على أن ينسلخ وجودا وفكرا عن كل ما هو خارج أسوار السجن وقد وجد أن الكثير من نزلاء السجن سبقوه إلى هذه المعاناة فمنهم من اجتازها وتأقلم وتحول من اسم يعتز به إلى رقم لا معنى له ومنهم من لم يستطيع فذوى وذاب كشمعة في مقلاة حامية وانتهى أمره إلى مشرحة المشفى الوطني أو تسلم جثته أهله أو من تبقى منهم ليواروها بخجل في اقرب مقبرة.
وسط هذا الجو الثقيل لم يفقد مروان إنسانيته ولم يفقد حتى البقية الباقية من أمله في العودة إلى رحاب الحرية ويعيش بقية حياته مع أمل حياته سعاد وعلى الرغم من أن معظم أحاديث نزلاء السجن تذكره وتعظه من اجترار ما حدث مع كل احد منهم وعن تجربته المرة التي أوصلته إلى هذا المكان إلا إن هذه الحكايا كانت تسلية له تساعده على قتل الوقت الذي يمر بطيئا.
إلى أن سمع ذات يوم حكاية غيرت مجرى تفكيره لا تختلف هذه الحكاية عن مثيلاتها التي تدور حول ندرة وفاء الزوجات حال غياب أزواجهن عنهن ولا سيما إذا كان هذا الغياب طويلا فمن هي التي ستصبر على فراق زوجها لها سنوات و الشرع الحنيف الذي أجاز لها طلب التفريق في حال هجرها بالفراش وامسك عنها.
وبدأت الحكاية تترى من هنا وهناك وكلها تصب في معنى واحد أن المرأة لا أمان لها حتى أن احدهم أفاض بالشرح من أن الكثيرات مارسن الخيانة وهن لازلن في عصمة أزاوجهن.
حكاية وقرار
تروى مروان مليا عند الذي سمعه وبدأت الأسئلة المحرجة تتلاحق وتطرح نفسها بقوة تبحث لها عن جواب ترى هل تصبر سعاد خمسة عشر عاما دون زوج..؟ دون رجل وهي الأنثى الجميلة التي يتمناها الكثير من الرجال وهل تصمد عن الانزلاق أمام هذا الطوفان من المغريات وما أكثر الذئاب!
بدأت هذه الحقيقة تتوضح وأصبحت هاجسا يأكل أعصابه وبدا يتخيل ذلك الذئب الذي سيندس إلى جانب هذه النعجة الوديعة كما بدأت الحقيقة تتوضح وبدأ يسأل نفسه ما الحل؟
وصل إلى أن الحل في أن يطلقها ويرخي لها عنانها إلى حيث ترغب وتريد فما دام لم يعد قادرا على أن يحتفظ بسعاد على الأقل يحتفظ بكرامته وشرفه.
ومع أول زيارة قامت بها سعاد إلى السجن وجدت أن مروان كان قد اتخذ قراره بتطليقها ليطلق سراحها وقد أذهلتها المفاجأة أو هكذا بدت له
ولماذا يا مروان؟... لماذا ؟
لأني احبك يا سعاد
تحبني وتريد أن تطلقني؟؟
هل هذا هو الحب؟
بدأ مروان يشرح لها أسباب اتخاذ قراره بالطلاق لا ظنا سيئا بها لا سمح الله وإنما ليتيح لها فرصة العيش بكرامة وهدوء فالحب ليس هو الأثرة والامتلاك إنما هو العطاء لذلك قرر أن يعتقها من عصمته وعقد نكاحه وتمسكت الأيدي من وراء الشباك الفاصلة وانخرط الاثنان في نوبة بكاء طويلة لم تنته إلا بانتهاء مدة الزيارة.
في حقيقة الأمر ما سمعته سعاد من مروان هو تماما ما كانت ستطلبه منه بنفسها في أول فرصة مناسبة ولكن مروان كان الأسبق إلا انه لم يكن يدري ما يخبئه له الدهر
في ذمة الماضي
سعاد أصبحت مطلقة ولم يعد من الجائز شرعا ولا أخلاقا أن تزور طليقها مروان في السجن فلا مسوغا لا أمام الله ولا أمام الناس حتى انه ذات يوم كتب لها رسالة مطولة ضمنها كل عواطفه وخواطره وبثها حبه الملتهب ولم ينس أن يقول في هذه الرسالة انه على العهد ولن يفرق بينهما إلا الموت عسى أن تكون كلمات الرسالة خيط عنكبوت المتبقي.
ولكن أهل سعاد حريصين أن تنسى مروان استلموا الرسالة ومزقوها دون أن تعلم سعاد بما ورد فيها لم يعد في مقدور مروان أن يعتب على سعاد لانقطاعها عنه فراح يغرق نفسه في هموم السجن وهموم نزلائه عساه ينسى سعاد ولكن هيهات له أن ينسى .
كانت سعاد الجرح الذي لم يندمل بقي جرحا غائبا في نفس مروان جرح كف عن النزيف ولكنه ترك وراءه ندبة كبيرة من المستحيل أن تخفي ملامحها الأيام.
سنة ...سنتان ....أربع وبدأت الناس تتحدث عن احتمال صدور قانون العفو وما كانت تتداوله ألسنة الناس صار حقيقة وأصدرت السلطات المعنية قانون العفو العتيد الذي شمل فيما شمل المحكوم عليه مروان وفتح باب السجن وخرج مروان .
أول ما توجه إلى دار أهله وذويه الذين فاجأهم قدومه على حين غرة ولم يكن احد منهم يتابع أخبار قانون العفو لذلك كانت عودته مثار استغراب ودهشة أكثر منها فرحة وبهجة وأول ما استغرب ودهشة أكثر منها فرحة وبهجة وأول ما سأل عنه كانت سعاد؟
ما هي أخبار سعاد ؟؟
سكت الجميع ولم ينبس احد منهم بنت شفة كرر السؤال ثانية وثالثة ووجد سكوتهم جوابا فأعاد الكرة هل ماتت ؟
وهنا انبرت شقيقته الكبرى المطلقة وأجابت بلؤم واضح: يا ليتها ماتت يا أخي
فهموني ماذا حل بها فهموني وهنا تدخلت الأم وبلهجة تقبض حنانا وماذا يهمك في الأمر يا ولدي ؟
أريد أن أعيدها إلي
لقد تزوجت يا ابني.
ماذا تقولين ؟
لقد تزوجت ابن عمها راتب.
راتب؟!
أيه نعم راتب الله لا يردها.
عاد مروان بذهنه إلى تلك الأيام الخوالي أيام كانت تحثه على أن يخلصها من ابن عمها راتب الذي زاحمه في التقدم إليها وتذكر كيف استجاب وقتئذ إلى توسلاتها واستعجل الأمر قبل أوانه وتقدم إلى خطبتها وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى نقير خشية أن يسبقه إليها راتب الذي سكت يومئذ على مضض وكان يعتقد انه الأحق بابنة عمه من أي رجل أخر...
حين دخل مروان السجن انفرجت أسارير راتب ودخلت إلى قلبه الفرحة ووجد في ذلك فرصته في الوصول إلى سعاد (الآن عاد الحق إلى صاحبه) بعد خمسة عشر عاما ستكون الناس غير هذه الناس والدنيا غير هذه الدنيا ولا احد يعلم من سيبقى حيا ومن سيموت ولكن الذي لم يكن في الحسبان هو قانون العفو الذي قلب المعادلة وغير كل الحسابات
والعود أسوأ
بدأ راتب يتحسب من خروج مروان من السجن لأنه وصلت إليه شائعات غير مريحة فقد تناهى إلى مسامعه أن مروان يفكر باستعادة زوجته إليه وانه ناشط في هذا المسعى كما بدأت تصل إليه أحاديث مروان من أن طلاق سعاد كان مؤقتا وان الله منّ عليه بقانون العفو حتى يعود إلى سعاد وتعود سعاد إليه كلام غريب لا يصدر إلا عن رجل مجنون ومروان نفسه لم يكن ينفي عن نفسه صفة الجنون إذ كثيرا ما كان يقول أنا مجنون بحب سعاد وسأسترد سعاد على الرغم من انف الطبيعة.
ولكن كيف وسعاد متزوجة من راتب فلا احد يدري وبدأ مروان يجهر بخفايا حكايته الأولى من انه لولا سعاد لما أقدم على ارتكاب جناية تهريب الأموال فهو يريد الآن أن يسترد الحق الضائع ويستعيد معه الزمن الجميل اللذيذ الضائع ولكن كيف لا احد يدري؟
اعتذر الكثير من الأقارب والأباعد عن قبول هذه المهمة المستحيلة لا بل والوضيعة.
وراح الكثير يعنف مروان على تفكيره في استرداد مطلقته التي تزوجت سواه وأنجبت واستقرت كما بدأ هذا البعض يتوجس شرا من مروان ويردد في السر والعلن الله يجيب العواقب سليمة ولكن مروان لم يشأ أن تكون سليمة .
الاقتحام
ذات ليلة وبينما سعاد في مطبخ بيتها تحضر العشاء وهي تحمل طفلها الصغير على كتفها وإذ بالباب الخارجي يدق فتطلب من زوجها راتب أن يفتح يقوم راتب متثاقلا ومتسائلا عن هذا الزائر الغليظ وفي هذا الوقت المتأخر الذي قطع عليه متابعة المباراة يمشي بخطى وئيدة ويفتح الباب يا للهول تشابكت نظرات كل من راتب ومروان وحدث ما لم يكن في الحسبان وساد الصمت الرهيب المخيف تمر ثوان كأنها الدهر .
وإذ بصوت سعاد من الداخل تسأل ن دق الباب يا راتب لا يجيب لاذ كل منها بالصمت المريب والموقف كان أشبه بالقنبلة التي بدأ يشعل فتيلها وانفجارها قادم لا ريب فيه.
تعود وتسأل بصوت ملح من الذي يدق الباب من على الباب
لم يدع مروان أن يجيب راتب فتولى هو الجواب بنفسه وبنغمة لها معنى واحد لا ثاني له أنا يا سعاد ها قد عدت ودفع الباب ودخل بخطى هادئة موزونة حتى صار في الصالون وسط دهشة راتب ونظراته الزائغة الحائرة وهو لا يدري ماذا عليه أن يفعل
- نعم ماذا تريد
أن تطلق سعاد والآن
- سعاد زوجتي وابنة عمي وآم طفلي
كانت سعاد زوجتي قبل أن تصبح زوجتك
- اخرج من هنا قبل أن اطلب الشرطة
لن اخرج من هذه الدار إلا ومعي سعاد
الموقف الحاسم
الموقف لم يعد يحتمل أي تردد فامسك راتب بتلابيب مروان واخذ يدفع به نحو الباب الخارجي.
ومروان يحاول جاهدا التملص من قبضتي راتب القويتين وسعاد تحمل طفلها الذي اخذ يبكي رعبا وانتحت به جانبا تنقل مقلتيها في ذعر شديد بين الرجلين وفجأة ظهرت سكين في يد مروان من النوع الأمريكي التي تبرز فيها النصلة الطويلة بالضغط على الزر وتقدم بها نحو راتب يريد طعنه في رقبته.
وفي اقل من ثانية تضع سعاد ابنها جانبا وتمسك بالفاز المشربية الخزف الذي يعتلي الحامل وتهوي به على رأس مروان من الخلف بكل ما أتاها الله من قوة ويترنح مروان قليلا ثم يسقط مضرجا بدمه .
لقد دخل مروان السجن من اجل سعاد ومات مروان من اجل سعاد فهل تستحق سعاد كل هذا الثمن؟
بقلم الاستاذ هائل اليوسفي
القصص المنشورة في هذا الباب ، قصص مقتبسة واعيد صياغتها عن حلقات سابقة بثت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي من البرنامج الشهير "حكم العدالة".