الكلمة الثالثة بديع الزمان سعيد النورسي 07-03-2018 06:06 AM
الكلمة الثالثة
بسم االله الرحمن الرحيم
(يا أيها الناس اعبدوا..) (البقرة: )21
إن كنت تريد أن تفهم كيف أن العبادة تجارة عظمى وسعادة كـبرى، وان الفسـق
والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقق، فانظر إلى هـذه الحكاية التـمثيليـة وأنصت إليها :
تسلَّم جنديان اثنان - ذات يوم - أمراً بالذهاب إلى مدينة بعيدة، فسافرا معـاً، إلى أن
وصلا مفرق طريقين، فوجدا هناك رجلاً يقول لهما :
إن - هذا الطريق الأيمن، مع عدم وجود الـضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسـلكونه
الراحة والاطمئنان والربح مضموناً بنسبة تسعة من عشرة . أما الطريق الأيسر، فمع كونـه
عديم النفع يتضرر تسعة من ع شرة من عابريه . علماً أن كليهما في الطول سواء، مـع فـرق
واحد فقط، هو أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيسر - غير المرتبط بنظامٍ وحكومة - يمضـي
بلا حقيبة متاع ولا سلاح، فيجد في نفسه خفَّة ظاهرة وراحة موهومة . غير أن المسافر المتجه
نحو الطريق الأيمن - المنتظم تحت ش رف الجندية - مضـطر لحمـل حقيبـة كاملـة مـن
مستخلصات غذائية تزن أربع "أوقيات" وسلاحاً حكومياً يزن "أوقيتين" يستطيع أن يغلب به
كل عدو وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريـق
الأيمن، ومضى في دربه حاملاً على ظهره وكتفه رطلاً من الأثقال أن إلا قلبه وروحـه قـد
تخلّصا من آلاف الأرطال من ثقل المنة والخوف .
بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتـزام، سـلك
سبـيـل الـشمال، فمـع أن جسـمه قد تخلص من ثقـل رطل فـقد ظل قلبه يرزح
تحت آلاف الأرطال من المن والأذى، و انسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصـرها الحـد .
فمضى في سبيله مستجدياً كل شخص، وجلاً مرتعشاً من كل شئ، خائفاً من كل حادثـة،
إلى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه .
أما المسافر المتوجه نحو الطريق الأيمن - ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبتـه
وسلا -حه فقد سار منطلقاً مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت إلى منة أحد أو
يطمع فيها أو يخاف من أحد .. إلى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابه اللائق به كأي
جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى .
فيا أيتها النفس السادرة السارحة !
اعلمي أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقـانون الإلهـي،
والآخر هم العصاة المتبعون للأهواء ..
وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الأرواح ويمر من القبر المـؤدي
إلى عالم الآخرة ..
وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيـل
ظاهراً إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلـك لان العابـد يقـول في
صلاته:لا إله إلا االله أي لا خالق ولا رازق إلاّ هو، النفع والـضر بيده، وانه حكيم لا يعمل
عبثاً كما أنه رحيم واسع الرحمة والإحسان .
فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئ باباً ينفتح إلى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه
بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخر لأمر ربه، فيلتجئ إليه بالتضرع. ويتحصن أمام كل مصيبة
مستنداً إلى التوكل، فيمنحه إيمانه هذا الأمان التام والاطمئنان الكامل
نعم! أن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الإيمان والعبودية، وأن منبع الجبن
ككل السيئات هو الـضلالة والسفاهة .
فلو أصبحت الكرة الأرضية قنبلة مدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابداً الله ذا قلـب
منور، بل قد ينظر إليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها بإعجاب ومتعة،
بينما الفاسق ذو القلب الميت ول و كان فيلسوفاً - ممن يعده ذا عقـل راجـح - إذا رأى في
الفضاء نجماً مذنباً يعتوره الخوف ويرتع -ش هلعاً ويتسـاءل بقلق : ألا يمكن لهذا الـنجم أن
يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الأوهام (لقد ارتعد الأمريكان يوماً من نجم مذنب ظهـر في
السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل ).
نعم! رغم أن حاجات الإنسان تمتد إلى ما لا نهاية له من الأشياء، فرأس ماله في حكم
المعدوم. ورغم أنه معرض إلى ما لا نهاية له من الم صائب فاقتداره كذلك في حكم لا ش ،يء إذ
إن مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل إليه يده، بينما دوائر آماله ور غائبه وآلامـه
وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال .
فما أحوج روح البشر العاجزة الـضعيفة الفقيرة إلى حقائق العبـادة والتوكـل، والى
التوحيد والاستسلام ! وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة ! فمن لم يفقد بصـره
كلياً يرى ذلك ويدركه . إذ من المعلوم أن الطريق غير الـضار يرجح على الطريق الــضار
حتى لو كان النفع فيه احتمالاً واحداً من عشرة احتمالات . علماً أن مسألتنا هذه، طريـق
العبادة، فمع كونه عديم الـضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فانـه يعطينـا ك نــز اً
للسعادة الأبدية، بينما طريق الفسق والسفاهة - باعتراف الفاسق نفس -ه فمع كونه عـديم
النفع فانه سبب الشقاء والهلاك الأبديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة مـن
عشرة... وهذا الأمر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (أهل الاختصاص والإثبـات ) بدرجـة
التواتر والإجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف .
نحصل من هذا :
أن سعادة الدنيا أيضاً - كالآخرة - هي في العبادة وفي الجندية الخالصة الله .
فعلينا إذن أن نردد دائماً
الحمد الله على الطاعة والتوفيق ..
وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون
هل نحن واقفون والزمان يمر بنا
أم أن الزمان واقف ونحن نمر به
أنت غير مسجل لدينا.. يمكنك التسجيل الآن.
|