جميل علي حمود*
ممّا لا شك فيه أنّ العولمة تفرض نفسها كالتحدي التاريخي الأبرز وربما الأكثر تعقيدا (على الإنسانيّة جمعاء في مطلع الألفية الثالثة، فالشعوب والمجتمعات والثقافات والحضارات التي اختلفت فيما بينها بهذا الشيء، أو تميّزت عن بعضها البعض بذلك، تجد نفسها اليوم من حيث المبدأ في نفس الموقع تجاه تداعيات وتأثيرات ومعطيات العولمة. قد يكون هذا الشعب أكثر تهيئا) للتفاعل مع التحدي، وربما يكون ذلك أسرع في التكيّف، لكن الاستحقاق يبقى جديدا (على الجميع والجديد يتطلب تجديداً. فالتحدي يبقى جديدا) على الجميع، فالدارس للعولمة سرعان ما يلاحظ الاستنتاج الخاطئ بأنّ المجتمع الأميركي محصن ضد ضرورة التجديد في وجه الجديد لأنّه صانع العولمة ومحركها الأول. إنّ التسليم بانطلاقة العولمة في أميركا ومنها لا يعني أبداً أنّ تداعياتها أبحرت الأطلسي لتشغل بقية العالم فيما تنعم الولايات المتحدة بالسلام والاستقرار.
الواقع أنّ المجتمع الأميركي عاش مخاضا (صعبا) وقاسيا (في العقدين الأخيرين من القرن العشرين فرضته سيرورة النحول من اقتصاد التصنيع إلى اقتصاد المعرفة. هذا المخاض طاول تدريجيا) كل فئات المجتمع ومسّ كل مجالات الحياة من سياسة وإدارة وأعمال وتعليم وصحة وإعلام ونقل واتصالات ومواصلات. دعنا نشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى التحول المكلف ماديّاً والقاسي نفسياً واجتماعياً للبنيّة التنظيميّة والإدارية للشركة الأميركية من البنيان التقليدي العامودي الذي يتسم بمركزية القرار وبيروقراطية ننفيذه إلى أفقي متشعب يتميز بمجموعة مراكز قرار سريعة التجاوب مع معطيات السوق. ثم إنّ تداعيات التحول والتجديد في الولايات المتحدة لا تزال تتفاعل وتتشكل في الوقت الذي يسلّم فيه الجميع بتحول هذه الأمة إلى إمبراطورية لا تقف سطوتها عند حدود. فالدارس لتطور أميركا لا بد من أن يلاحظ أنّ البطء الطبيعي لعملية تحول وتكييف منظومة القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية السائدة في مجتمعها المحافظ نسبيا (والمنعزل جغرافيا)، مقابل السرعة الغير مسبوقة للتطور الاقتصادي والتكنولوجي فد أدّت وتؤدي إلى انفصام شخصية بين ما هو معتاد عليه وما يجب الاعتياد عليه.
إنّ انعكاسات هذه الهوة -إن أردنا تسميتها كذلك- بين ما هو قيمي اجتماعي نفسي وما هو اقتصادي تكنولوجي لا تزال تتفاعل وتتشكل وستبقى كذلك إلى حين. قد لا تؤدي إلى أزمات تطفو على السطح. لكنّها تثير حيرة وخوف وارتباك في الخلفية مما قد يؤدي إلى ردود فعل غير متوقعة. وربما -بل على الأرجح- يندرج في إطار ردود الفعل هذه ووصول مجموعة دوغماتية أيديولوجية إلى السلطة في مجتمع براغماتي عملي ومرن.
في مقدمة كتابه مبادئ الاقتصاد(1)، يعطي الفرد مارشال -أحد أعمدة الاقتصاد الكلاسيكي- علم الاقتصاد مفهوما (عموميا) حيث يقول بأنّه دراسة للبشرية في شؤون حياتها العادية. فهو بذلك يتفحص ذلك الشق من النشاط الفردي والجماعي الذي يكّرس لتحقيق وإستخدام الشروط المادية للرفاهية. بهذا المفهوم العمومي يعطي مارشال علم الاقتصاد معنى مبسّط وشامل لكنّه دقيق لأنّ الاقتصاد بالفعل علم يتعاطى دراسة جزء مهم من شؤون حياة الإنسان العادية واليومية. فالاستهلاك والادخار والعمل والإنتاج والزراعة وغيرها من المسائل التي تدخل في صلب علم الاقتصاد ما هي إلاّ شؤون حياتية يأخذ فيها الإنسان قرارات ويتعامل معها بوعي أو بدونه في حياته العادية اليومية.
لماذا نذكر هذا التعريف ونعلق عليه؟ لأنّه يظهر ويبرز أهمية علم الاقتصاد لتطور الإنسان وبالتالي لازدهار وتقدم الشعوب والأمم. فكما يقول محمود عبد الفضيل: فإنّ نمو الفكر الاقتصادي وازدهاره في مجتمع ما له علاقة وثيقة بنهضة الشعوب ورقي الأمم(2). إذن فحال الشعب العربي يعبر عن حال الفكر الاقتصادي العربي، فهل من مشكّك في تردي الاثنين معاً؟
الواقع أنّ الفكر العربي بمجمله من اقتصادي وغيره قد وقع أسيراً للركود وعدم التجديد منذ زمن ليس بقريب. حال الركود هذه تسيطر على العقل العربي فيما العقل اللاعربي يتطور ويتجدد. وهكذا يزداد العقل المتخلف تخلفاً وتتسع الهوة بين العرب وبقية العالم.
أمّا فيما يتعلق بالفكر الاقتصادي العربي، فإنّ حاله كانت بحاجة إلى تطور وتجديد قبل بروز تحدي العولمة. الآن والعالم يتعولم، تعود ضرورة التجديد هذه لتطرح نفسها بقوة وإلحاح أكثر من أي وقت مضى على ساحة الفكر العربي. لا بل إنّنا نذهب أبعد من ذلك لنقول أنّ التجديد الذي ربما كان مستحسناً في مرحلة ما من تاريخنا، ثم تحول إلى ضرورة في مرحلة لاحقة، قد أصبح اليوم في عصر العولمة مسألة وجود أو عدمه. من هذا المنطلق -وسعياً منا إلى مساهمة وإن تواضعت في إطلاق حركة تجديد في الفكر العربي-
نتناول في هذا البحث قضية الفكر الاقتصادي العربي في مواجهة تحديات العولمة. إلى هذا، نقسم بحثنا إلى ثلاثة محاور رئيسية. فبينما نتناول حال الفكر الاقتصادي العربي في تحليل نقدي في المحور الأول، نكرس المحور الثاني إلى تقديم مفهوم موضوعي للعولمة،مالها وما عليها. أما في المحور الثالث فنسعى إلى عرض أبعاد التجديد التي تفرضها العولمة على الفكر الاقتصادي العربي.
الفكر الاقتصادي العربي: تحليل نقدي
لا بد من التسليم بادئ ذي بدء بأنّ علم الاقتصاد الحديث نشأ وتتطور في الغرب. فالبعض يقول: أنّ وليام بتي أسس قواعد البناء الكلاسيكي لعلم الاقتصاد السياسي في مؤلفين اثنين(3). حتى وإن كان هذا القول صحيحاً، فإنّ أسس ومبادئ علم الاقتصاد السياسي لما يعرف اليوم بالاقتصاد الكلاسيكي والنيوكلاسيكي وما يعرف عامةً بالاقتصاد الرأسمالي لم تنتشر ويذيع سيطها إلاّ مع ظهور كتاب ثروة الأمم للبريطاني آدم سميث(4). هكذا أصبح آدم سميث أبو علم الاقتصاد الحديث الذي لعب العديد من الاقتصاديين الغربيين أدواراً مهمة في تطوره. نذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ديفيد ريكاردو الذي يرتبط اسمه باقتصاد التجارة الخارجية ونظرية الميزة المقارنة، جان مينارد كيز الذي نظّر لتدخل السلطة في إدارة العرض وجوزيف ستغليتز الذي قدّم مساهمات مهمة في اقتصاد المعلومات.
والمثير للإعجاب بحق هو قدرة الاقتصاد الكلاسيكي على التفاعل مع الأحداث والتطورات والأزمات والتأقلم معها أو أقلمتها. فهو بذلك حافظ ولا يزال على شرعيته وقوة حجته بالرغم من إشكاليات نظرية وتطبيقية عدة كانت ولا تزال تشوّه جمال بنيانه المنطقي. هذه القدرة على التطور والتفاعل والتأقلم لا تنطبق على الفكر الاقتصادي العربي بالرغم من أنّ جذوره تضرب في أعماق التاريخ وبداياته تسبق بقرون آدم سميث وديفيد ريكاردو. فالقرآن الكريم الذي أخرج العرب من الظلمات إلى النور احتوى مبادئ وأسسا اقتصادية عامة ومرنة بما يكفي لأن تتجاوز حدود الزمان والمكان. هذه الأسس كانت ولا تزال قابلة للتطور والاجتهاد مما يجعلها بالتالي قابلة لأن تتحول إلى علم اقتصاد عربي إسلامي ذو شرعية علميّة وهوية مميزة. هذا بالضبط ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل يوجد فكر اقتصادي عربي؟
1- هل يوجد فكر اقتصادي عربي؟
انطلاقا (من المبادئ الاقتصادية القرآنية، ساهم بعض أعلام العرب والإسلام قديماً في تطوير الفكر الاقتصادي. وقد سبقت إسهامات ابن خلدون والمقريزي فكر آدم سميث بأربعة قرون(5). فقد تضمن فكر الأول مناقشة مهمة لظاهرة القيمة وتقسيم العمل والنمو الاقتصادي. نلاحظ هنا أنّ هذه المفاهيم الثلاثة هي التي بني عليها كارل ماركس نظرية الاقتصاد الاشتراكي كما بني عليها آدم سميث نظرية الاقتصاد الكلاسيكي. أما المقريزي فقد بحث في موضوع النقد ومسألة الدورات والأزمات الاقتصادية. طبعاً نحن لا نعلم إذا كان اقتصاديو الغرب على علم بما قدّمه المقريزي، لكن أبحاثه تشكّل توطئة لما يعرف اليوم بالاقتصاد النقدي واقتصاد الدورات.
بعد ابن خلدون والمقريزي، يلاحظ الدارس انقطاع العرب عن التعامل مع علم الاقتصاد والفكر الاقتصادي وابتعادهم عنهما. طبعاً هذا لا يعني أنّ أحداً لم يكتب أو يؤلّف في الاقتصاد. لكن نلاحظ عدم وجود مساهمات مهمة في تطور علم الاقتصاد بين القرن الرابع عشر والقرن العشرين. فهل يمكن أن يكون هناك فكر عند شعب في موضوع انقطع وابتعد عنه حوالي الخمسة قرون؟ هل يوجد فكر اقتصادي عربي؟
حتى يمكننا الإجابة على هذا السؤال، وجب علينا توضيح أبعاده ومقاصده. نعتقد أنّ للسؤال بعدين أساسيين يجب بحثهما. البعد الأول يتعلق بالفكر الاقتصادي المتصل بتطوير الاقتصاد كعلم موضوعي حديث. أما البعد الثاني فيتناول إسهام العرب بحثاً وتفكيراً وكتابة في الفكر الاقتصادي السائد.
الواقع أنّه ليس للعرب إسهامات تذكر في علم الاقتصاد الحديث. وحتى لا تلتبس الأمور علينا، دعنا نوضح ما نعنيه بعلم الاقتصاد الحديث. فهو يتشكّل من منظومة الأسس والمبادئ والقوانين الموضوعية التي تتحكم بالسلوك الإنساني في الاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من الإشارة إلى أنّ الاقتصاد الحديث حتى يكون علماً يجب أن يكون مجرداً من منظومة القيم الأيديولوجية التي تصبغه وتكون مرتبطة بزمان ومكان ما. فكما يقول فلاسفة العلوم، أنّ أهم ما يميز وجهة النظر العلمية هو النزعة الموضوعية التي تلتزم الحياد الكامل وتترفع فوق الميول والغايات الذاتية(6).
ربما ينفعنا أن نستخدم مثالاً للتعليل. علم الاقتصاد يقول أنّ الناتج القومي الإجمالي يتشكل من مجموع الاستهلاك والاستثمار والمصاريف الحكومية والميزان التجاري الخارجي (تصدير-استيراد) والتحويلات النقدية للعمالة الوطنية الموجودة في الخارج. هذه المكونات لا تتغير من مكان إلى آخر. قد تزيد أحجامها أو تنقص لكنها لا تزيد مكوناً أو آخر. إذن فالمعادلة هنا هي معادلة موضوعية لا تتأثر بالزمان والمكان، وبالتالي فهي لا ترتبط بقيم شعب ما أو مجتمع ما. أما إذا قلنا أنّ زيادة الناتج القومي الإجمالي تتطلب زيادة المصاريف الحكومية ما يعني زيادة تدخل السلطة في الدورة الإنتاجية وفي إدارة الاقتصاد الوطني، فإنّ قولنا هذا لا يشكل قانوناً علمياً ثابتاً بقدر ما يعبّر عن اتجاه أيديولوجي. فمن الممكن زيادة الناتج القومي الإجمالي بدون زيادة المصاريف الحكومية. كما أنّ إدارة السلطة للاقتصاد الوطني ترتبط بقيم واعتقادات بعيدة عن الموضوعية.
لقد أسهبنا بعض الشيء في توضيح الفارق بين الاقتصاد كعلم والاقتصاد كمذهب أو أيديولوجية لهدف في نفسنا. إنّ الخلط بين الإثثنين المرتبط بالشك في والخوف من الغرب ومذهبه الرأسمالي جعل العرب يرفضون علم الاقتصاد الحديث ويبتعدون عنه مما ساهم ويساهم في ركود الفكر الاقتصادي العربي. لقد انصرف العرب إلى البحث في مسائل المذاهب والأيديولوجيات الاقتصادية مما أوقعهم أسرى فخ الصراع الفكري المرير بين الرأسمالية والإشتراكية متجاهلين قابلية مبادئ الاقتصاد الإسلامي للتطور إلى علم اقتصاد حديث. فبالرغم من بعض الجهود في هذا المجال التي نذكر منها على الأخص مؤلف السيد محمد باقر الصدر الرائد (اقتصادنا)(7)، لا يزال الاقتصاد الإسلامي في طور إثبات الوجود واكتساب الشرعية العلمية. بناءً على هذا، ليس من المبالغة الاستنتاج بأنّ الفكر الاقتصادي العربي المرتبط بتأسيس وتطوير علم اقتصاد حديث متواضع جداً.
2- واقع الفكر الاقتصادي العربي المعاصر
نعود الآن إلى البعد الثاني لسؤالنا عن وجود الفكر الاقتصادي العربي ألا وهو مساهمة العرب في الفكر الاقتصادي السائد. دعنا نشير إلى أنّ المقصود هنا هو الفكر الذي يبتعد عن الاقتصاد كعلم موضوعي ويتناول بشكل أساسي مسائل الاقتصاد السياسي والاقتصاد المقارن من مذاهب وأيديولوجيات ومدارس ومفاهيم قيمية. يلاحظ الدارس في هذا المجال أنّ المسائل التي تناولها الاقتصاديون والمفكرون العرب تصب في اتجاهين اثنين.
يأخذ الاتجاه الأول الصراع بين الرأسمالية والإشتراكية محوراً أساسياً له. فهو بذلك يمكن أن ينضوي تحت لواء الاقتصاد المقارن. في هذا المجال، وجد العرب أنفسهم في حالة عداء مع الغرب ورأسماليته نتيجة تبنيه لإسرائيل في قضية فلسطين ولارتباطه بالاستعمار بالإضافة إلى أسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا. هذه العدائية ساهمت في تحويل العرب إلى مدافعين عن الإشتراكية ومنظرين لها(8). كأنّ معاداة المذهب الرأسمالي لا تتم إلاّ بتبني مذهب آخر مستورد. ومما ساهم في انتشار الفكر الإشتراكي هو ارتباطه بالفكر القومي في مرحلة مرّة إن في أيديولوجية البعث أو الأيديولوجية الناصرية. وفي محاولتهم إضفاء شرعية على الفكر الاشتراكي حاول البعض تعريب الاشتراكية تحت اسم العلمية فيما سعى البعض الآخر إلى أسلمتها.
أمّا الوجه الآخر للصراع الاشتراكي الرأسمالي فقد برز في نقد الرأسمالية والنظام الاقتصادي العالمي الذي نتج عنها. في هذا الإطار برز بشكل أساسي تبني العرب لنظرية المركز والأطراف المستوردة من الاقتصادي الأرجنتيني رؤول بيربيش. خلاصة هذه النظرية هي أنّ الدول الصناعية تشكل مركز يسيطر على الاقتصاد العالمي ويوجهه لخدمة مصالحه فيما تشكل بقية الدول أطراف تابعة. ففي ما ينمو المركز نمواً ذاتياً، يبقى نمو الأطراف متجه لخدمة المصالح الخارجية حيث لاقت هذه النظرية انتشاراً في صفوف المفكرين والاقتصاديين العرب(9).
نعود الآن إلى الاتجاه الثاني الذي انصب فيه الفكر الاقتصادي العربي وهو القضايا التي شكّلت جدول أعمال الشعب العربي إثر تحرره من الاستعمار. هذه القضايا شملت بشكل أساسي الوحدة والتنمية والتحرر. فقد بحث المفكرون والاقتصاديون العرب بإسراف في هذه القضايا ولم يتركوا زاوية إلاّ وحاولوا استكشافها(10).
العولمة: مالها وما عليها
كنا قد أشرنا في ما سبق إلى أنّ الفكر الاقتصادي العربي كان بحاجة إلى تجديد وتطوير قبل أن تبرز العولمة وتفرض نفسها على الإنسانية جمعاء. أما الآن والعالم يخوض غمار العولمة، فإنّ حدة حاجة العرب إلى التجديد والتطوير قد زادت. مما يعني أنّ الهوة بين الفكر العربي السائد والفكر الضروري لمواجهة تحديات العولمة والسير في مسيرة الحضارة من جديد قد اتسعت، ولو كان الأمر يقف عند هذا الحد -يعني لو أنّ الهوة هذه ستتوقف عن الاتساع- لكان الأجدى بالمرء أن يتفاءل خيراً حتى ولو نسبياً. فالتفاؤل هنا يكون مبعثه الأمل بتقليص الهوة إذا ما تدارك العرب الأمر وعملوا على إطلاق حركة تجديد وتطور. لكن ما نلاحظه في تفاعل وتعامل الفكر العربي مع العولمة لا يبعث على التفاؤل.
لقد خلط الفكر العربي عموماً والفكر الاقتصادي العربي خصوصاً بين الاقتصاد كمذهب وأيديولوجية وعلم الاقتصاد الحديث في السابق؛ فانتقدنا الأول وتجاهلنا الثاني بسبب الأول إلى أن أصبح الثاني حكراً على غيرنا. أما اليوم ونحن نواجه العولمة، لا يزال يغلب على فكرنا وتفكيرنا أنّها ليست إلاّ امتداداً لأيديولوجية غربية أمبريالية تسعى دائماً للسيطرة علينا ومرحلة متطورة لمذهب رأسمالي يهدف إلى سلب مواردنا. وهكذا نتجاهل العولمة كظاهرة موضوعية اليوم كما تجاهلنا علم الاقتصاد الحديث الأمس. إنّ استمرار الفكر العربي في اعتماد منهجية لا تميز بين الموضوعي والذاتي فيما يأتينا من الغرب لن يؤدي إلاّ إلى تعميق أزمة تخلفنا عن معطيات العصر وبالتالي إلى إعاقة نهضتنا وتكريس تبعيتنا. من هذا المنطلق، دعنا نحاول إعادة النظر في تحليل ظاهرة العولمة وتحديد مفهومها لعلنا بذلك نساهم في تطوير فهم موضوعي لها.
1- العولمة عند العرب: بين الظاهرة والمفهوم
يرى جورج طرابيشي أنّ العولمة أتت إلى العالم العربي كمفهوم وليس كظاهرة في المقام الأول. ويتابع قائلاً: (فالعولمة لم تتظاهر في بورصات العالم العربي، ولا في أسواقه المنفتحة -وكم بالأحرى المغلقة- ولا في مصانعه المرحّلة إليه من الخارج، بل في أدمغة المثقفين المتخصصين في علوم الاقتصاد والقانون والاجتماع والتاريخ والإنتروبولوجيا وحتى اللسانيات أم -المثقفين الشموليين القيمين- بإرادتهم أو بوهمهم على الوعي العام؛ فمفهوم العولمة المتداول في العالم العربي هو حسب إنتاج المثقفين في المقام الأول وبرسم استهلاكهم. فهو -بمعنى ما- مفهوم حبر وورق أكثر منه حقيقة واقعة على الأرض)(11).
قد يكون هذا التوصيف أدق ما قيل عن تفاعل وتعامل العرب مع العولمة. فالفكر العربي لا يعرف العولمة كظاهرة بل يبحثها كمفهوم نظري والفارق بين الاثنين كبير. الظاهرة هي الشيئ الذي نستطيع تلمس ومعاينة صفاته وإفرازاته على أرض الواقع. أمّا المفهوم فهو شيء مجرد عن شيء لا نلمسه ولا نعرفه ولكننا نفكر فيه. دعنا نشير إلى أنّنا لا نقصد إعطاء تعريفات فلسفية دقيقة هنا بقدر ما نقصد إيضاح الفارق بين الظاهرة والمفهوم فيما يتعلق بالعولمة. إنّ إمكانية تلمس ومعاينة الظاهرة تسمح للدارس والمفكر بتكوين فهم واعي لها وتجبره على مطابقة هذا الفهم مع الواقع والتواصل معه. أمّا المفهوم فيبقى تمرين عقلي إذا لم يرتبط بظاهرة ما. فهو قابل للأخذ والرد ولصياغة والصناعة وإعادة الصناعة طالما أنّ الواقع لا يسمح باختباره وإثبات شرعيته ومصداقيته. فإذا لم يرتبط المفهوم بظاهرة وبواقع، يبقى عرضة للصياغة الأيديولوجية التي تنبع من فكر مذهبي محدّد مسبقاً.
على ضوء ما تقدم، يبدو لنا واضحاً الآن ما نعنيه بالقول أنّ الفكر العربي يعرف العولمة كمفهوم غير مرتبط بظاهرة وبواقع. ففي العالم العربي باكمله، لا يمكن معاينة العولمة كظاهرة إلاّ في إمارة دبي الصغيرة. أمّا ما عدا ذلك فلا يعدو أن يكون أرهاصات عولمة. وقد تناقلت وكالات الأنباء مؤخراً خبراً مفاده أنّ عراق الخمسة وعشرين مليون نسمة لم يكن فيه ما يزيد عن العشرين ألف خط هاتف محمول قبل الحرب الأميركية البريطانية عليه. كيف يمكن لشعب ما أن يعيش ظاهرة العولمة التي ترتكز على المعرفة والتكنولوجيا في الوقت الذي لا يزال نصفه تقريباً غارق في بحر الأمية!؟ إنّ المفكرين العرب -من اقتصاديين وغيرهم- يكتبون عن العولمة، ويقرأون فيها لكن أكثرهم يجهلها كظاهرة وواقع، إذن لا عجب أن يلاقي كتاب الصحفيان الألمانيان هانز بتر مارتن وهارولد شومان الذي لا يرى في العولمة إلاّ فخ وعدوان على الديمقراطية والرفاهية انتشاراً واسعاً في العالم العربي(12). فأغلب ما يقال اليوم عن العولمة في الفكر العربي ليس إلاّ امتداداً، وتكراراً لما قيل بالأمس عن الإمبريالية والتبعية والرأسمالية والمؤامرة العالمية.
2- العولمة: حلبة صراع الأيديولوجيات
يتعامل الناس اليوم مع شيء اسمه البريد الإلكتروني، هذا الشيء هو رسالة تكتب على حاسوب ويمكن أن تتضمن صوت وصورة ووثائق مكتوبة، وترسل إلى حاسوب آخر في اي مكان من العالم حيث تقرأ ويمكن أن تطبع. الرسالة هذه تصل في ثواني ويمكن الرد عليها في ثواني أيضاً. إنّ وسيلة الاتصال هذه ليست إمبريالية ولا رأسمالية ولا ماركسية ولا إرهابية. فهي وسيلة اتصال ليس إلاّ، لا هوية لها وبإمكان أي إنسان إستخدامها وتسخيرها لخدمة مصالحه، دعنا نلاحظ هنا أنّ الاتصال عبر البريد الإلكتروني يختزل الوقت ويوسّع الفضاء.
لقد أردنا من خلال هذا المثال البسيط الدلالة بانّ في العولمة ظاهرة موضوعية لا علاقة لها بالأيديولوجيات والمذاهب والمؤامرات. هذه الظاهرة تستوجب الدرس والبحث والفهم بمنهجيات علمية، وبعقول منفتحة إذا كان للفكر العربي أن يتجدد وللشعب العربي أن ينهض من جديد. وهذا ما لا نراه في الفكر العربي المعاصر. دعنا نلقي نظرة على رؤية الفكر العربي للعولمة.
يرى صادق جلال العظم في العولمة انتقال نمط الإنتاج الرأسمالي من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والتسويق إلى عالمية دائرة الانتاج وإعادة الإنتاج(13). وقد كان المفكرون الماركسيون قد سبقوا الكاتب في توصيف علمية الانتقال هذه لكنهم لم يسمّوها عولمة، الواضح هنا أن التوصيف يتم من منظار أيديولوجي ماركسي يحكم على العولمة كمفهوم أكثر ما يحاول فهمها كظاهرة؛ كأنّ العولمة فتحت الباب أمام المفكرين العرب الذين يتبنون هذا التوصيف لإعادة إحياء الفكر الماركسي. في مكان آخر يقول صادق جلال العظم وحسن حنفي: إنّ (العولمة في مظهرها الأساسي تكتل اقتصادي للقوى العظمى للاستثمار بثروات العالم، مواده الأولية وأسواقه، على حساب الشعوب الفقيرة، واحتواء المركز الأطراف التي حاولت الفكاك منه في الخمسينات والستينات)(14)، ربما كانت نظرية المركز والأطراف إطار نظري صالح للنظر إلى علاقة دول العالم الثالث بالغرب في وقت ما، ولكن أميركا اللاتينية التي ابتدعت النظرية أقلعت عنها منذ زمن، فإلى متى يبقى العرب أسرى لها؟
عبد الإله بلقزيز ينابع السير في نفس الاتجاه لكنه يستخدم لغة اعنف في تعريفه للعولمة. فهو يرى أنها (اغتصاب ثقافي رمزي على سائر الثقافات، إنّها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف -المسلح بالثقافة- فيهدد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها العولمة)(15). إذن فمضمون المؤامرة هنا يتعدى الاقتصاد وسلب الموارد إلى الثقافة والحضارة. فالعولمة هي ثقافة تغتصب وتعتدي على سائر الثقافات. أليس هذا هو لب نظرية صراع الحضارات التي بشّر بها صموئيل هانتنغتون؟(16)
أما عند مطاع صفدي فإنّ العولمة هي أمبريالية المطلق. (فهي كلمة ملطّفة للهجوم الشامل على جميع دول العالم لإخضاعها لإرادة الرأسمالي الكبير الذي تحوّل من رأسمالي صناعي إلى رأسمالي مالي مجمّع لثروات فلكية هائلة)(17). أخيراً وليس آخراً يرى محمد عابر الجابري في العولمة استهداف للوجود القومي عبر تصفية المقولات الثلاث لهذا الوجود وهم الدولة، الأمة والوطن.
3- ماهية العولمة
من الطبيعي أن تخضع أي ظاهرة جديدة لتأويلات وتفسيرات وشروحات خاصة إذا كانت بحجم العولمة، ومما يزيد في الغموض والالتباس هو معايشة الظاهرة في طور تشكلها؛ فهي تغيّر شيء تعوّد عليه واستقر إليه الإنسان إلى شيء لا يزال يجهل بعضه أو كله. والإنسان بطبيعته لا يرتاح كثيراً للتغيير خاصة إذا مس قيمه وأسس بنيانه النفسي.
كما أنّه من الطبيعي أن تسعى الشعوب والأمم وتعمل جاهدة على الاستفادة من ظاهرة جديدة لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذا بالضبط ما يفعله الغرب بمؤسساته وجماعاته وأفراده في تفاعله مع العولمة. أمّا العرب فيرفضون الظاهرة جملة وتفصيلاً لأنّهم أساساً ليسوا في وضع يسمح لهم بمجاراة الغرب في التفاعل مع العولمة أو غيرها. لكن هذا الوضع لا ينفي وجود الظاهرة الموضوعي ولا يعفي أحداً من مواجهتها. فأن يغمض المرء عينيه حتى لا يرى شيئاً أمامه لا يعجبه لا يؤول بالشيء إلى الذهاب مع الريح، ولا حمت الرمال النعامة من عدوها عندما خبأت رأسها فيها آملةً اتقاء الشر.
يغلب على دراسة العولمة التركيز على شقيها الاقتصادي والتكنولوجي في ظل تجاهل نسبي لجوانبها الأخرى من ثقافي واجتماعي ونفسي وسياسي؛ ذلك عائد في ظننا إلى أنّها كظاهرة تتجلى وتكشف عن نفسها بوضوح في حقلي الاقتصاد والتكنولوجيا مما يسهل معاينتها، تلمسها وملاحظتها. كما أنّ الاقتصاد والتكنولوجيا يسهلان عملية القياس الكمي التي لا تزال صعبة في حقول الثقافة والاجتماع وعلم النفس كونها مجالات تعنى أساساً بالسلوك الإنساني الذي يصعب أن يخضع لوحدة قياس كمية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ نتاج وانعكاسات العولمة خارج الاقتصاد والتكنولوجيا ما فتئت تتسم بالغموض والضبابية كونها لا تزال في طور التكوين والتبلور.
وإذا كانت هذه عوامل موضوعية تؤخّر دراسة وفهم العولمة في جوانبها التي تتعلق بالسلوك الإنساني، فلا يمكننا استثناء العوامل الذاتية التي تتحكم بوجهة نظر هذه الجهة أو تلك. لكن مهما يكن من أمر، فإنّ هناك ظاهرة موضوعية في العولمة يدلل عليها مثالنا السابق عن البريد الإلكتروني. وكنا قد لاحظنا في معرض حديثنا عن البريد الإلكتروني مسألة اختزال الوقت واتساع الفضاء. فهذه المسألة ما هي إلاّ السمة الأساسيّة للظاهرة الموضوعيّة للعولمة. أما المتغيّرات الأخرى التي يكثر الحديث عنها كبروز التكتلات الاقتصادية واقتصاد الحجم وتغيير بنية الشركات والاستثمار العالمي وحركة رأس المال وتجاوز الحدود القوميّة وما ذلك فما هي إلا نتائج وإفرازات لاختزال الوقت واتساع الفضاء، فما هي العولمة؟
يقول وليام شيرمان في موسوعة ستانفورد الإلكترونية للفلسفة: إن معظم المنظرين الاجتماعيين المعاصرين يتفقون على أن العولمة توصف تغيرات أساسيّة في الدوائر الفضائيّة والزمنيّة للوجود الاجتماعي تُخضع معنى الفضاء والحدود لتحولات في وجه تسارع درامتيكي للبنيان الزمني العائد لأشكال النشاط الإنساني(18). قد لا يكون صحيحاً أن معظم المنظرين الاجتماعيين يتفقون على هذا المفهوم. فمنظرو الفكر العربي لا يتعاملوا أساساً مع وجهة النظر هذه؛ لكن الأكيد هو أن أساس العولمة مبني على التغيرات الأساسيّة في دوائر الفضائية والزمنية للوجود الاجتماعي، وإذا أردنا تجريد هذا المفهوم من صبغته الفلسفية، فبإمكاننا القول أن العولمة هي تحول مجتمعي شامل نابع أساساً عن تطور تكنولوجي نوعي وسريع يؤدي إلى اختزال الوقت واتساع الفضاء.
الفكر الاقتصادي العربي: تحديات العولمة
أشرنا سابقاً إلى أن الفكر الاقتصادي العربي كان بحاجة إلى تجديد قبل العولمة؛ كما قلنا أنّ المكوّن الأساسي لظاهرة العولمة الموضوعية هو اختزال الوقت واتساع الفضاء؛ هذا المكون فرض نفسه على الفكر الاقتصادي بشكل عام مما جعل الاقتصاديين في الغرب يعيدون النظر في علم الاقتصاد الحديث على ضوء إفرازات الواقع الجديد وهكذا انطلقت حركة تجديد في الفكر الاقتصادي الغربي وهو الفكر الذي طالما دأب على التأقلم والتفاعل مع المتغيرات؛ فما بالنا بالفكر الاقتصادي العربي الذي يتسم بالجمود في وجه التغيير. إنّ العولمة تفرض تحديات عديدة على الفكر العربي بشكل عام، وعلى الفكر الاقتصادي العربي بشكل خاص؛ بما أن الفكر الاقتصادي العربي هو موضوعنا، دعنا ننهي هذا البحث باستعراض أهم هذه التحديات.
1- اقتصاد المعرفة والمعلومات.
قبل الثورة الصناعية، سيطرت الزراعة على الاقتصاد الوطني وشكل النشاط الزراعي أساس النشاط الاقتصادي. فكانت الأرض عامل الإنتاج الأهم وسيطرت المنتوجات الزراعية على موازين المبادلات التجارية؛ لكن الثورة الصناعية قلبت الأمور رأس على عقب. فتحول النشاط الاقتصادي من الزراعة إلى الصناعة وأصبحت الآلة عامل الإنتاج الأهم؛ أما اليوم والوقت يختزل والفضاء يتسع، نرى النشاط الاقتصادي يتغير مرة أخرى لينتقل من الصناعة إلى اقتصاد المعرفة والمعلومات. وهكذا تصبح المعرفة بحد ذاتها عامل الإنتاج الأهم. لم يعد مهماً أن نصنع شيئاً. الأهم هو أن نضع قيمة مضافة. والقيمة المضافة ممكن أن تكون خدمة أو معلومة أو تقنية أو حتى طريقة تسويقية. فليس مستغرباً أن نجد أنّ القطاعات الاقتصادية المزدهرة في اقتصاد متعولم هي المعلوماتية والاتصالات والاستشارات وما إلى ذلك من قطاعات تغزيها المعرفة والتكنولوجيا.
إنّ اقتصاد المعرفة والمعلومات يفتح أبواباً أمام شعوب لم تكن لتُفتح أمامها في مرحلة الصناعة. فالتصنيع يتطلب أموال مرتفعة جداً. أما المعرفة والمعلومات فيمكن أن نُتابع بتكلفه أقل بكثير. من هنا نقول أنّ على الفكر الاقتصادي العربي أن يبحث ويفكر ويتأمل في معطيات اقتصاد المعرفة والمعلومات لعلنا نستطيع استغلال فرص لم نكن لندركها من قبل.
2- التحول البنيوي الاقتصادي
إنّ البنية الاقتصادية التي كانت تتناسب مع طبيعة النشاط الصناعي والنشاط الزراعي لم تعد صالحة لنشاط اقتصاد المعرفة والمعلومات. والمقصود بالبنية الاقتصادية هنا البنية التحتية من مواصلات واتصالات وشبكات إلكترونية وأسواق والبنية الفوقية من وحدات إنتاجية وتسويقية وإدارية وعلاقات اقتصادية بين القطاعات وما إلى ذلك. لقد أصبح التحول البنيوي الاقتصادي ضرورة لا مهرب منها والدليل على ذلك كثرة الحديث عن الإصلاح الاقتصادي في العالم العربي. لكن المستغرب هو تجاهل الفكر الاقتصادي العربي لماهية وكيفية التحول البنيوي الاقتصادي. ما هو التحول؟ ما هي أهدافه؟ كيف يتم؟ بأي سرعة؟ ما هي النماذج المتاحة؟ ما هي التجارب المتوفرة؟ كيف تستوعب الآثار الجانبية؟. هذه أسئلة ملحة لا تزال برسم الفكر الاقتصادي العربي.
3- المنافسة والتنافس
لا يزال القطاع العام يسيطر على معظم النشاط الاقتصادي في مختلف أنحاء العالم العربي. والقطاع العام لا يتفاعل مع معطيات المنافسة بقدر ما يتعامل مع اعتبارات العمالة وتلبية الحاجات الأساسية والحفاظ على مصالح طبقات معينة وما إلى ذلك. كما أنّ الحماية الاقتصادية كانت في السابق أسهل وأكثر فعالية. أما اليوم فلم يعد بإمكان القطاع العام متابعة نشاطه كما أن شيئاً لم يتغير. وحتى إذا كان بالإمكان حماية السوق الوطنية فكيف نحمي المؤسسة الاقتصادية الوطنية من المنافسة في الأسواق الخارجية التي تفتح أمامها؟ ليس المطلوب بالضرورة خصخصة القطاع العام وتحرير التجارة عشوائياً كما تشترط المؤسسات الاقتصادية الدولية. لكن المطلوب إعادة النظر بالتوازن القائم بين القطاع العام والقطاع الخاص. كما أنّ المطلوب أن نولي إهتماماً لدراسة حيثيات ومعطيات المنافسة حتى نفهم كيف ننافس وبماذا.
4- الاقتصاد الكمي
فيما لا يزال الاقتصاد السياسي يسيطر على الحديث الاقتصادي في الفكر العربي، قطع علم الاقتصاد شوطاً طويلاً باتجاه الموضوعية والعلمية؛ فإذا بالنماذج الكمية المرتكزة على علم الرياضيات وعلم الإحصاء بالإضافة إلى تقنيات الحاسوب تنتشر في كل مجالات البحث الاقتصادي، بالمقابل لا يزال الاقتصاد عند العرب لا يرتقي إلى مرتبة العلمية لأسباب عديدة أهمها انفصام المفكر العربي عن مجتمعه وانفصام الاثنين عن السلطة، فالنماذج الكمية في الاقتصاد تصبح ضرورة عندما يسعى المفكر إلى اختزال المسافة بين النظرية والواقع. فالواقع هو الذي يغذي المفكر بإحصاءات ومعلومات يستخدمها لامتحان نظرياته وتطويرها.
وأخيراً فما لا شك فيه أن الفكر العربي بمجمله بحاجة إلى تجديد. والأكيد أن العولمة تزيد في حده هذه الحاجة، كما أنّ نهضة الشعب العربي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإمكانية التجديد أو عدمه. فبعولمة أو بدونها لا يمكن لشعب ما أن ينهض طالما أنّ مفكريه غارقون في جمود مخيف.
************************
الحواشي
*) باحث من لبنان.
1- Marchall Alfred (1890), Principles of Economics, London; New York: Macmillan,
2- عبد الفضيل محمود (1985)، الفكر الاقتصادي العربي وقضايا التحرر والتنمية والوحدة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص13.
3- Petty William (1662), A Treatise of Taxes and Contributions, London Brooke
4- Smith Adam (1776), An Inquiny Into the Nature and Courses of the Wealth of Nations, London: Straham and Cadell
5- عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون واحمد بن علي المقريزي. ولد الأول في تونس، أما الثاني فقد ولد في بعلبك بلبنان. عاش الاثنين في القرن الرابع عشر، وساهما في تطوير مجالات عدة في الفكر العربي الإسلامي. من مؤلفات الأول المقدمة والثاني المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار.
6- الطويل توفيق(1967)، أسس الفلسفة، القاهرة: دار النهضة العربية، ص135-136.
7- الصدر محمد باقر(1991)، اقتصادنا، بيروت: دار التعارف للمطبوعات.
8- أنظر على سبيل المثال: صايغ يوسف عبد الله، (نحو صيغة عربية للاشتراكية)، الابحاث، الجامعة الاميركية في بيروت، السنة 14، العدد 4، تشرين الاول 1961.
9- أنظر على سبيل المثال: سعد الدين إبراهيم، (حول مقوله التبعية والتنمية الاقتصادية العربية)، المستقبل، السنة 3، العدد 17، تموز 1980، ص6 – 24.
10- عبد الفضيل محمود(1985)، الفكر الاقتصادي العربي وقضايا التحرير والتنمية والوحدة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
11- طربيشي جورج(2000)، من النهضة إلى الرده، بيروت: دار الساقي، ص165.
12- Martin Hans – Peter et Harald Schuman(1997), le Piège de la mondialisation. L’agression contre la démocracie et la prospérité: Traduit Olivier Mannoni, Paris: Actes / Sud
13- العظم صادق جلال (1996)، ما هي العولمة؟ تونس: المنظمة العربية للتربية والعلوم، ص28.
14- العظم صادق جلال وحسن حنفي (2000)، ما هي العولمة؟ دمشق: دار الفكر المعاصر، ص23.
15- بلقزيز عبد الله (1998)، (العولمة والهوية الثقافية) في كتاب العرب والعولمة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص318.
16- Huntington Samuel P. (1996), The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, London: Touchstone Books 17- صفدي مطاع (1999)، (دور العولمة امبريالية المطلق)، مجلة الوفاق العربي، السنة الأولى، العدد الثاني، آب 1999، ص24.
18- Schewrman William, “Globalization”, the StanFard Encyclopedia of Philosophy (Full 2002 Edition)