“إذا” أُلغيت المادة الثامنة من دستورنا مَن يصنع الاقتصاد ومَن يقوده؟!
فراس ديوب
اقتصادنا، في الماضي والمستقبل .. هو حالنا وتطلعنا ولقمة عيشنا .. مَن يصنع الاقتصاد ومن يحدد هويته، كيف كانت وكيف ستصبح؟، بين سمات ومحددات اقتصادنا الحالي وآلية صنع القرار فيه من جهة وبين هويته وآفاقه المستقبلية وطريقة صناعته في مستقبل منظور يقوم على التعددية الحزبية وتعددية صناعة القرار وتنافسية البرامج ما هو حال اقتصادنا، من يرسم ملامحه إذا ألغينا المادة الثامنة من الدستور السوري، من سيضع الخطط الإستراتيجية المستقبلية للاقتصاد السوري, وما هي الآليات التي يجب أن تتخذ في رسم السياسة الاقتصادية في المستقبل, ومن سيرسم هذه السياسات الاقتصادية...؟
هوية مفقودة
يرى الدكتور الياس نجمة أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة دمشق, أنه من الصعب تحديد هوية الاقتصاد السوري بشكل دقيق, فنحن في سورية كان لدينا تخطيط, لكن لم يكن لدينا «اقتصاد مخطط »، كما أننا نعيش تناقضات كبيرة بين متطلبات الواقع اليومية, وبين الرؤى الإستراتيجية للاقتصاد, إضافة إلى أننا صنعنا الاشتراكية بقوانين رأسمالية, والآن نصنع الليبرالية بقوانين اشتراكية.
اقتصاد تدخلي
يضُيف نجمة إن المادة الثالثة عشر من الدستور تنص على أن الاقتصاد اشتراكي مخطط, والجميع يعرف أن هذا الأمر لم يطبق لا في السابق ولا الآن، أما إذا أردنا أن نجد تسمية لنظامنا الاقتصادي, فيمكن أن نقول أنه اقتصاد تدخلي من قبل الدولة, فالدولة تتدخل في جميع مساراته, وإن كان هناك قطاعات عديدة تمارس النشاط الاقتصادي وفقاً لقوانين السوق, وبالتالي لا نستطيع أن نقول أن لدينا اقتصاد مخطط, ولا نستطيع في نفس الوقت أن نقول أنه لدينا اقتصاد ليبرالي نظراً لتدخل الدولة, فأصحاب المصالح تحالفوا مع أصحاب النفوذ السياسي وأقاموا أنشطة اقتصادية ص نُفت في عداد القطاع الخاص, لكنه ليس خاصاً لأنه لا يعمل ضمن قوانين المنافسة «العرض والطلب » بقدر ما هو نوع من السيطرة والاستئثار, وبالتالي يمكن أن يكون اقتصاد سلطوي أكثر مما يكون اقتصاد سوق, وإن كان يعمل بآليات السوق, لذلك أقول أن النظام الاقتصادي لدينا في بعض جوانبه ليبرالي, وفي جوانبه الأخرى تدخلي من قبل الدولة, ولكن من الصعب أن نقول أن له صفة عامة, فمنذ الثمانينات بدأ اتجاه ينادي بتحرير بعض مفاصل الاقتصاد وجاء قانون الاستثمار السياحي والزراعي عام 1986 , ثم في عام ) 1991 ( صدر قانون تشجيع الاستثمار, واندفع الاقتصاد السوري بسياسة تحرير الاقتصاد.
أكثر من قاطرة نمو
هذه الآلية الاقتصادية قامت على خروج فريق اقتصادي لم يكن على مستوى التحولات التاريخية, يضُيف نجمة: صحيح أنه كان يؤمن بالتحول الاقتصادي, لكنه فنياً ومعرفياً, كان أقل بكثير من أن يفهم ويعرف ما هي الآثار السلبية التي ستنعكس عليه من هذه التحولات, كما كان في بعض جوانبه غير متجانس, فاندفع نحو تحرير الاقتصاد بعقل ليبرالي بدائي. وهناك من خرج ليقول أن السياحة هي قاطرة النمو, وآخر خرج ليقول أن التجارة الخارجية هي قاطرة النمو, وذهب ثالث ليطرح أن القطاع المالي هو قاطرة النمو, وكانوا يعتقدون جميعاً وهم على حق أن التحرير الاقتصادي يؤدي إلى نمو بنسب عالية, لكن هذا النمو يعود فقط لفئة محدودة جداً من المجتمع وهنا تكمن المشكلة. ثم اكتشفنا بعد ذلك أن لدينا قاطرات من النمو, عددها أكبر من عربات القطار, لكن قاطراته أكبر من عرباته بكثير, ووقف وراء هذا الكلام أصحاب مصالح كبرى وهنا بدأت الحيتان في العمل... واكتشفنا أيضاً أننا فعلاً صنعنا نمو, ولكن هذا النمو ذهبت آثاره وثماره إلى طبقة محدودة من التي تعمل فيه, وذلك في غياب نظام ضريبي فعال وعادل. فالنظام الضريبي جاء ليراعي ويحابي هذه الفئات, كما عملت الحكومة على تخفيض الضرائب إلى مستويات متدنية وغير مألوفة, ولم نرى في العالم شركات مساهمة تدفع ضريبة دخل بنسبة »14%« فقط, بينما يدفع العاملين فيها »20%« ضريبة دخل على راتبه, وهذه فضيحة حقيقية.
قوانين عرجاء
إضافة إلى ذلك اندفعت وزارة المالية في الحكومة السابقة نحو قوانين وتشريعات مالية غريبة لم يعرف لها التاريخ مثيل. فعلى سبيل المثال في فرنسا تشتري عقاراً, فإذا تم بيعه قبل عشر سنوات يدفع المواطن »50%« من ضريبة الأرباح, أما إذا تم تأجيل البيع فتصبح الضرائب أقل بكثير, وهذا يؤدي إلى احتفاظ مالكه به, وبالتالي عدم وجود مضاربات في السوق, أما نحن في سورية مع الأسف لا يلحظ التشريع الضريبي لدينا هذه الأمور وهذا ما أوجد المضاربات العقارية في السوق, ووجدت صفقات بعشرات المليارات, فحدث ارتفاع بأسعار العقارات بلغ بين- 2005 2008 على الأقل% 500 , وهذا أدى إلى سحق كل الذين لا يملكون عقارات, ونمت عملية نقل الثروة من الذين لا يملكون العقارات إلى الذين يملكون العقارات, وكان ذلك بفضل القانون 41 لعام 2005 الذي أصدره وزير المالية السابق لتحريض المضاربات العقارية.
ووجدت تفاوتات هائلة على مستوى الغنى بين الناس, تفاوتات هائلة على مستوى السلطة, تفاوتات هائلة على المستوى الاجتماعي, وأصيب داخل المجتمع بحالة من الاستعلاء لأصحاب المال تجاه الآخرين, لا يعرفها إلا المجتمعات المريضة المهترئة المهيأة للسقوط.
وأنا كاقتصادي أقول: من الممكن أن تعمل أي حكومة على زيادة الدخل القومي وتضاعفه ويزداد غنى الأغنياء, كما يزداد فقر الفقراء، لكن الأهم هو النزاهة الفكرية, فكل مسؤول إذا لم يملك النزاهة الفكرية فإن جميع الاعتبارات ستسقط حكماً. لذلك فالمسئول الاقتصادي الذي يحترم نفسه, لن يتكلم عن نسب النمو فقط, بل يجب أن يعلن من هي الفئات المستفيدة من هذه النسب, وهذا ما يحدث في جميع دول العالم, لذلك أقول أن مسألة توزيع الدخل القومي أكثر أهمية من كل السياسات الاقتصادية المتبعة, علماً أن القيادة السياسة رفعت شعار «نظام السوق الاجتماعي », لأن الحكومة مسؤولة عن كل ما له علاقة بكلفة الإنسان, سكنه, طبابته, تعليمه, غذاؤه, لكن على أرض الواقع لم يظهر شيء.
المستقبل الاقتصادي مجهول
يتابع «نجمة » في تقديري أنه في المستقبل قد نذهب باتجاه حكومة ائتلافية, وهناك أحزاب أخرى لها وجهة نظر بالموضوع,ة وستشارك في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية, وإذا ما بقي حزب البعث هو الذي يرسم السياسة الاقتصادية هل يوجد رؤية واحدة للمسألة الاقتصادية.
هناك كوادر في حزب البعث تؤمن بالليبرالية,وهناك كوادر لا تزال تؤمن بمسيرة الماضي, وهناك من يقف بالمنتصف وهم متنوعون, ونحن في سورية لم نستطع حتى الآن أن نصل إلى نتيجة نهائية, وإلى صياغة نهائية للفكر الاقتصادي. هوية الاقتصاد: فقر وحرمان وحيتان في السوق، أما الدكتور محمد الحبش عضو مجلس الشعب يقول للأسف كنا وما زلنا نقسم في البرلمان على حماية النظام الاشتراكي ولكن الحكومة تبنت علناً اقتصاد «السوء » الاجتماعي لأن ما حصل نتيجة هذه التدابير الاقتصادية أن المجتمع ازداد فقراً, والحرمان تعاظم, وولدت حيتان جديدة من رحم هذا النظام الاقتصادي الجديد, ولم نعد اشتراكيين ولم نصبح رأسماليين, ويمكن أن نقول أن نظام السوق الاجتماعي تمكن ببراعة من انتخاب واختيار أسوأ ما في الاشتراكية وأسوأ ما في الرأسمالية, وأعادت طبخهما بصيغة أفقرت المجتمع, وأتاحت لحيتان المال مزيد من الثروات الخيالية.
أمل في المستقبل
يتابع حبش: نحن نتطلع إلى المستقبل ولكن يجب أن يعلم الناس أن الاقتصاد الذي لا يهتم بمعاناة الناس وعذاباتهم هو اقتصاد ظالم سواء أكان اسمه شيوعياً أو اشتراكياً أو رأسمالياً. إن الدستور من وجهة نظري يجب أن يتناول القضايا بشكل عام ووطني, وأن لا يجبر الأمة على انتهاج سلوك اقتصادي محدد, فهناك مدارس اقتصادية في العالم, هناك عقل اشتراكي, وهناك عقل ليبرالي, وهناك عقل رأسمالي, وهناك عقل السوق الاجتماعي, ولا أعتقد أنه من المطلوب أن نورط الدستور في اختيار أي نمط اقتصادي.
لا نحتاج منطق غيبي
كما أن الدستور يتحدث عن العدالة, ولكن صناديق الاقتراع هي التي تفرز ماذا يريد الناس من أنماط الاقتصاد, فالاشتراكية عدالة, والليبرالية تحتوي أيضاً جوانب مهمة من العدالة, ونظام السوق الاجتماعي أيضاً يحتوي جوانب مهمة من العدالة, ولكن نحن لا نحتاج إلى منطق غيبي يفرض بقوة الدستور النمط الاقتصادي الذي يجب أن تنتهجه سورية, وهذا الكلام أعتبره موجهاً إلى لجنة إعداد الدستور عندما تتشكل أياً كانت هذه اللجنة, فليس من حقها أن تفرض على السوريين نمطاً ينتمي إلى أي مدرسة اقتصادية في العالم. فالدستور يتحدث عن العدالة وصناديق الاقتراع هي التي تحدد المدرسة الاقتصادية التي يجب أن نسلكها.
الأحزاب المرتقبة لها رؤيتها
أعتقد أن من واجب هذه الأحزاب السياسية عندما تتشكل, أن تتقدم ببرامجها للناس ولا يوجد تكوين اقتصادي نتجه فيه الآن إلا تكوين حزب البعث, فالمسؤول عن الاقتصاد الآن هو حزب البعث باعتباره حزباً حاكماً, وهذه الحالة مستمرة إلى حين تغيير الديموغرافية السياسية في سورية, فعندما تبدأ الأحزاب بعملها يفترض أن تتقدم برامجها الاقتصادية للناس, ويفترض أن تعمل على تسويق هذه البرامج الاقتصادية وإقناع الجماهير, وعندما تقتنع الجماهير بمنهج اقتصادي ما, فإنها ستطرحه في صناديق الانتخابات, وعند ذلك فإن الفائزين عبر التكتلات التي ستنشأ هم المسؤولون أمام الشعب عن الخيار الاقتصادي الجديد, فأنا أقدم رؤيتي والآخر يقدم رؤيته وعندما تقول صناديق الاقتراع كلمتها على الأقلية أن تتكيف مع خيار الأكثرية.
فالأحزاب السياسة الناشئة قادرة على أن يكون لها رؤية اقتصادية, وسياسية, واجتماعية من خلال صناديق الاقتراع. لكن حتى الآن لا يوجد ظروف صحيحة لتكوين أي حزب سياسي يعتمد برامج اقتصادية. وبالتالي عندما تلغى المادة الثامنة ويتوقف التعامل الأمني مع الحياة السياسية ستتشكل الأحزاب, فالأحزاب لا تحتاج إلى أربعين عاماً حتى تكو نّ رؤية اقتصادية وسياسية,الأحزاب لا تخلق المجتمع, الأحزاب تنظم المجتمع.
التاريخ موجود
في حين رأى الدكتور رسلان خضور الأستاذ في كلية الاقتصاد جامعة دمشق إن الجبهة الوطنية التقدمية في أول إنشائها كانت ثورة سياسية في سورية, لأنها خرجت بعد فترة انقلابات سياسية, فيما بعد اجتمعت مجموعة أحزاب وعملت جبهة من أجل قيادة البلد لذلك كانت هذه الأحزاب السياسية هي الفاعلة في ذاك الوقت, وهي التي صنعت الجبهة وقتذاك, وقادت البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ونحن الآن في مرحلة جديدة إذا تم إلغاء المادة الثامنة, وهذا يعني أن الأحزاب التي تفوز بصناديق الاقتراع هي التي ستقوم برسم السياسة الاقتصادية, وبالتالي سيكون لها ممثلين في مجلس الشعب, ومن يرسم السياسة الاقتصادية يمكن أن يكون اتحاد وطني, وذلك حسب الصيغة التي ستأتي لأنه لم يتفق عليها حتى الآن, لذلك سيكون هناك أحزاب معارضة, وأحزاب سوف تدخل في الحكومة, والذي سيأتي بالأغلبية هو الذي سيشكل الحكومة, وهو الذي سيصنع السياسات الاقتصادية للدولة.
اعتماد على الماضي
ويستطرد خضور: أعتقد أن صيغة الجبهة لن تلغى من الحياة السياسية, وإنما سوف تأخذ آلية جديدة مختلفة. ففي جميع دول العالم تكون هناك مجموعة أحزاب تتحد فيما بينها وتشكل أغلبية ساحقة, وهي التي تعمل على تشكيل الحكومة, وبالتالي من يصنع السياسات في المستقبل سواء السياسية أو الاقتصادية هي الأحزاب التي ستكون لها الأغلبية في مجلس الشعب, فإذا كان البعث مع مجموعة أخرى يشكل مجموعة من التحالف, وبالتالي هم يعملون على رسم السياسة الاقتصادية للدولة. لذلك أقول إن من سيرسم السياسة الاقتصادية في المستقبل هي الأحزاب التي لها الدور الأساسي والفاعل سياسياً, والتي لها أكثر ممثلين وتمثيل. فقانون الأحزاب قد صدر فعلاً, فالحزب الذي يمكن أن يكون حضوره كبيراً ومنتشراً وله وجود حقيقي, هو من المفترض أن يكون له الدور الأساسي في تشكيل الحكومة, وله الدور الأساسي في رسم السياسة الاقتصادية.
لذلك يمكن أن يكون البعث جزء ومعه أحزاب أخرى, يعملون على الاتفاق أو الاتحاد على أساس تشكيل جبهة عريضة, وممكن أن يكون أيضاً أحزاب أخرى معارضة لن تدخل في عملية تشكيل الحكومة. لذلك لن يدخل ضمن التحالف إلا الأحزاب التي تكون قريبة من بعضها البعض إيديولوجيا وسياسياً واقتصادياً وبرنامجياً. لذلك من يرسم السياسة الاقتصادية للدولة هو الأحزاب أو الحزب الذي سيفوز بالأغلبية في الانتخابات النيابية.
اختلاف على تفاصيل الهوية الاقتصادية
نحن جربنا السياسة الاقتصادية الاشتراكية لكننا لم نكن يوماً من الأيام دولة اشتراكية ذات توجه اشتراكي, فالقطاع العام القوي لا يعني أن الدولة اشتراكية, لأن الاشتراكية منظومة متكاملة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً, لكننا في سورية أخذنا مثلاً «الملكية العامة » وهذا البند لوحده لا يصنع دولة اشتراكية, لذلك كان لدينا بلد متخلف بكل خصائصه, بالرغم من بعض التوجهات بما يسمى الاشتراكية, لذلك الصيغة المتبعة في السياسة الاقتصادية السابقة أثبتت أنها غير مجدية, ولم تكن ناجحة, ثم بعد ذلك اتجهت إلى اقتصاد السوق الاجتماعي, تبين أنه خلال فترة بسيطة لم يؤدي الدور الإيجابي المرجو منه, وهذا يطرح تساؤلاً عن الخلل ومكانه.
وتابع الدكتور خضور أن الحكومات السابقة لم تنفذ ما يسمى باقتصاد السوق الاجتماعية, فهي نفذت الجانب الاقتصادي منه, ولم تنفذ الجانب الاجتماعي منه, لذلك خلقت إرباكات وإشكالات في اقتصاد السوق, كان على الحكومات السابقة لو أخذت وعملت بمنظومة اقتصاد السوق الاجتماعي كمنظومة متكاملة, وهي برأيي المنظومة الناجحة والمفيدة. والتي هي هوية الاقتصاد السوري فعلاً وحقيقة، وأستطيع القول أن الفريق الذي نفذ السياسات الاقتصادية السابقة لم يكن مقتنعاً باقتصاد السوق الاجتماعي, وعبروا أكثر من مرة في هذا المجال بأنه ليبرالي حر, لذلك كان همهم الجانب الاقتصادي, ولم يكن يهمهم الجانب الاجتماعي, وهي عملية متكاملة لا يمكن أن تجتزئ منها شيئاً وتترك الآخر. فأنا مع أن تكون هوية الاقتصاد السوري هو اقتصاد السوق الاجتماعي الحقيقي وتعمل عليه.
للفيزياء وللإصلاح دور في الاقتصاد
يقول الدكتور خضور أن هناك مقولة هامة جداً وهي أن الإنسان لا يستطيع العيش بدون أكسجين, لكن وجود الإنسان لم يخلق من أجل تنفس الأكسجين والهواء. أي منشأة وأي شركة وأي مشروع هدفه الربح قولاً وفعلاً, لكن المشاريع لا تقتصر غايتها على الربح فقط, لذلك غايتها أن تنتج سلع وخدمات وفرص عمل للمجتمع, فهذا هو المنطلق الأساسي لاقتصاد السوق الاجتماعي. لذلك أقول أن الهوية التي يجب أن تكون للاقتصاد السوري هو اقتصاد السوق الاجتماعي, وهنا المشكلة ليس بالمفهوم أو بالتوجه وإنما بالتطبيق, وكان واضحاً وبشكل جلي أنهم لم يطبقوا الشق الاجتماعي منه, واكتفوا بالشق الاقتصادي فقط, لكن من أجل تطبيق الشق الاجتماعي نحن بحاجة إلى مؤسسات وإلى هيكلية جديدة, وهذه الهيكلية لم تكن موجودة مطلقاً.
لذلك عدم توفر المؤسسات والهيكلية لتطبيق الشق الاجتماعي في اقتصاد السوق الاجتماعي, هو الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه, وأنا كباحث اقتصادي كانت معدلات النمو في المراحل السابقة لا بأس بها, لكن المشكلة ليست في معدلات النمو, وإنما المشكلة كانت من الذي استفاد من معدلات النمو, وهنا المشكلة والكارثة الكبرى, فقط كان المستفيد شرائح معينة ومحددة, أما الشرائح الأخرى فقد ازدادت سوءاً, نتيجة لسوء التوزيع الهائل في الدخل والثروة. لذلك إن التطبيق السيئ, والاكتفاء باقتصاد السوق الاقتصادي, هو الذي أوصلنا للتفاوت الكبير في توزيع الثروة والدخل, وهو الذي أوصلنا أيضاً إلى جزء من المشاكل التي نعيشها في الفترة الحالية.
القبول باللعبة الديمقراطية
على المكتب الاقتصادي في حزب البعث العربي الاشتراكي أن يقبل اللعبة الديمقراطية, ما دام قد قبل بوجود تعدد الأحزاب في الدولة, وبالتالي سوف يكون توافق بين الأحزاب التي يمكن أن تكون فاعلة وترسم السياسات الاقتصادية للدولة, من خلال وجود المكتب الاقتصادي في كل حزب من الأحزاب الفاعلة. لذلك يجب أن يكون حزب البعث وبالائتلاف الذي يقيمه مع بعض الأحزاب السياسية الأخرى, عليهم جميعاً أن يرسموا السياسة الاقتصادية للدولة, وعلى الدولة أن تعمل لتنفيذها, ويقوم حزب البعث والائتلاف الذي معه بقيادة المجتمع والدولة, ولكن بلا نص دستوري, وهذا بدوره يعمل على تقوية الحزب والأحزاب الأخرى المتحالفة معه. نحن الآن في مرحلة انتقالية وعلى الأحزاب الناشئة أن تدرك ذلك وأن تعي أننا نعيش الآن في فترة انتقالية لذلك يجب عليها أن تجهد وتناضل من أجل أن تكون فاعلة على الأرض, ويكون لها برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكي تستطيع الدخول بتنافس حقيقي مع الحزب السائد أو أي حزب آخر, من أجل أن تعمل على تكوين رأي عام, وبالتالي ائتلاف مع الأحزاب التي تتناغم مع بعضها البعض لترسم السياسة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة, لأنه لا يوجد بديل عن ذلك.
الأكثرية ترسم السياسات الاقتصادية
في حين الباحث والاقتصادي د. قدري جميل رأى أنه إذا حدث تعديل للدستور كما يفترض, وأصبح لدينا نظام تعددي ديمقراطي, وهذا معناه أن الحكومة ستكون حكومة أكثرية نيابية, والأكثرية النيابية حتى تصبح أكثرية نيابية, يجب أن تكون منتخبة على أساس برنامج, هذا البرنامج له هوية سياسية وهوية اقتصادية. فالأحزاب في البلدان المتقدمة تتصارع على أساس البرامج التي تتقدم به. إضافة إلى أن الأحزاب تحاول دائماً أن تكسب ود الجمهور بناءً على أساس ما ستقدمه له, لأن الحكومة هي تمثيل للإرادة الشعبية المعكوسة بانتخابات نيابية, انتخابات ممثلي المجلس التشريعي. فالأحزاب السياسية بالتأكيد سيكون لديها برامج مختلفة أي سياسات, إذا أرادت أن تقود حكومات ولكن هذا يجب أن يندرج ضمن نطاق أوسع هو الإستراتيجية الاقتصادية يثبتها الدستور, نمو عال ملزم, وأعمق عدالة اجتماعية.
عائق الاستراتيجية الاقتصادية
يقول د. جميل: لم يكن للاقتصاد السوري أي إستراتيجية اقتصادية في السابق, وجميع الحكومات عملت ضمن الخطط الخمسية, والخطط الخمسية لم تكن مطلقاً «خطط » بمعنى الكلمة, لأنها أصلاً لم تخطط لحجم النمو, الخطة الأولى التي حددت النمو هي العاشرة بطرق أثبتت أنها فاشلة.
ويتابع: من الناحية الشكلية القانونية تكون القصة محلولة, إنما القصة الأخطر,هي أنه ليس من المعقول أن كل حكومة تأتي بعد كل انتخابات تعمل على الدوران 180 درجة بالسياسات الاقتصادية, والإستراتيجيات الاقتصادية, لأن الاستراتيجيات توضع على مدى أكثر من 25 سنة, بينما الانتخابات تحدث كل أربع أو خمس سنوات, وهي تحمل في داخلها احتمال تغيير سياسات, وليس تغيير إستراتيجيات، لذلك يجب أن يضمن الدستور الإستراتيجية الاقتصادية للدولة.
هوية الاقتصاد «صلاة على الحاضر »
برأي د. قدري جميل لم يكن لدينا سياسة اقتصادية في الماضي, وبالتالي كنا «نصلي على الحاضر » في السياسات الاقتصادية حسب السوق والجو العام, ويقول: التاريخ الاقتصادي السوري في النصف الثاني من القرن العشرين سار عبر مرحلتين، الأولى: نتيجة الجو العام الموجود في العالم كله والعالم الثالث، دور قوي للدولة تدخّل في جميع مجالات الاقتصاد والحياة, وحتى السياسة. هذا الدور القوي للدولة لم يرافقه دور ذكي, أي أن دور الدولة كان يشوبه ثغرات كبيرة, وتشوهات كبيرة, ولم يكن قادراً على إعادة إنتاج نفسه. ثم بعد ذلك حدثت تغيرات وتبديلات عالمية حيث سقط الاتحاد السوفييتي, وذهب الدعم العربي, فاضطر الاقتصاد السوري أن يتكيف مع الموجة العالمية الليبرالية, والليبرالية أخرجت دور الدولة القوي, وبتنا بدون قوة ولا ذكاء.
الهوية هي الهيكلية
في حين كانت رؤية الخبير والباحث الاقتصادي ربيع نصر في هوية الاقتصاد السوري مختلفة إلى حد عن سابقاتها فقال: إن المقصود بهوية الاقتصاد السوري ليس فقط من يرسم السياسات الاقتصادية, بل المقصود بالهوية هو هيكلية هذا الاقتصاد, فالاقتصاد السوري متنوع في قطاعاته من حيث الموارد, لكنه بإنتاجية ضعيفة مقارنة بالإقليم ودول العالم الثالث, وعلى مستوى الدولة, فنحن نتحدث عن اقتصاد بإنتاجية ضعيفة, كما أن ضعف الإنتاجية له مجموعة عوامل جوهرية, إلا أن العاملين الأساسين اللذين يتحكمان بالإنتاجية على المستوى البعيد, هو عامل الرأسمال البشري والمؤسساتية.
جوهر الخلل
أما المؤسساتية فهي جوهر الخلل في الاقتصاد الوطني بمعنى القوانين, والتشريعات, والمسائلة, وفعالية الحكومة, والقدرة على متابعة السياسات, والوصول إلى الأهداف المرجوة, فالمؤسسات الموجودة لدينا غير مبنية بطريقة يمكن أن توصل إلى سياسة مناسبة ملائمة للأهداف بعيدة المدى, فهناك خلل في طريقة رسم الأهداف بعيدة المدى, وترتيب أولويات احتياجات الاقتصاد الوطني, وهناك خلل آخر وهو في الآليات التي تتم ببناء هذه السياسة.
الشعب هو من يرسم السياسات الاقتصادية
إما نحن نثق بالشعب أو لا نثق به, وبالتالي نحن جزء منه, فكل الثقة بالقدرة بالشعب للتعبير عن نفسه, إذا وجد المناخ والأقنية المناسبة للتعبير عن نفسه, فهو قادر على إنتاج أحزاب, وجمعيات, ومجتمع مدني, وصحافة تمثل رأيه, وقادر على صناعة سياسات اقتصادية واجتماعية رائدة, وقادر على عمل اختراق في المنطقة, على مستوى التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فالشعوب التي أتيحت لها فرصة الإبداع أبدعت.
“لا مخطط ولا ليبرالي”
أما الدكتور عابد فضلية نائب عميد كلية الاقتصاد في جامعة دمشق فتحدث عن الهوية الاقتصادية وقال أن البعض يعرف الهوية بأنها النهج الاقتصادي, والنهج بمعنى إما مخطط ليبرالي مختلط, أو اقتصاد سوق اجتماعي, أو اقتصاد سوق اشتراكي, لنقول هوية الاقتصاد القطاعية, اقتصاد سياحي أو اقتصاد خدمي, أو اقتصاد زراعي أو صناعي, وهذا هو الذي أعتبره هوية. حتى الآن هوية الاقتصاد السوري من حيث النهج «لا هو مخطط ولا هو ليبرالي », ولا هو من حيث الأولويات القطاعية, فالهوية الاقتصادية لم تكن واضحة, وعندما كانت واضحة في السياسات, وفي الرؤى, وفي الخطط كان التنفيذ غير منطبقاً مع الرؤى مثل المرحلة السابقة.
الهوية مالية وليست صناعية أو زراعية
يتابع الدكتور فضلية أن الهوية الاقتصادية خلال الفترة الأخيرة تم التركيز فيها على التطوير, والتسريع في التطوير ودعم تطور القطاعات الخدمية, والاتصالات, والمال, وقد يكون ذلك مبرراً بسبب دخول القطاع الخاص, مثل قطاع المصارف والاتصالات والانترنت والنقل,على حساب الصناعة والزراعة، لكن المشكلة الخطيرة أيضاً, والتي سمعناها حرفياً وبشكل متكرر, أن قطاع الزراعة في سورية هو قطاع متخلف وأرباحه حدية, قالها أحد كبار المسؤولين في الحكومة السابقة. إذاً لم يتم التركيز على القطاع الزراعي, وهنا كانت المشكلة وليست في التخطيط أو بالخطة, فالمشكلة ليست في الخطابات السياسية أو الخطابات الاقتصادية, إنما المشكلة هي في الفلسفة التي كانت تقود عملية الثقة وتؤثر فيها, كما أن الاعتقاد بعدم أهمية وعدم جدوى التركيز على قطاع الزراعة, ولا حتى على الصناعة التحويلية, حتى أنه وجد حقد على الصناعة التحويلية, وأنا أقول أنه حقد مبرر بنسبة »20%« , أي أن القطاع الصناعي الخاص في سورية مهمل لمصالحه, ولا يريد تطوير الصناعة, كما أنه غير قادر على أن يطور نفسه, ولكن هذا لا يعني أن نتخذ قرارات وتشريعات لا تساعد على ذلك, ففي الفترة الماضية أحسسنا أن القرارات كانت تساهم في عدم تطور القطاع الصناعي.
الاقتصاد للأحزاب الائتلافية
يرى «فضلية » أن الحزب الحاكم مع الأحزاب الأخرى وتوافقها, كذلك البرلمان بمعنى مجلس الشعب, والحكومة التي يمكن أن تكون ائتلافية, والهيئات المشكلة من جميع الأحزاب هي التي سترسم السياسة الاقتصادية للدولة. فالأحزاب التي تقود الدولة والمجتمع هي التي سترسم السياسة الاقتصادية. حتى أن هناك خطأ بتفسيرنا للمادة الثامنة أحياناً, والتي تقول أن الحزب قائد للدولة والمجتمع, ولم تقل أن الحزب هو الذي يحكم الدولة والمجتمع, بمعنى ليس لوحده يحكم الدولة والمجتمع, بمعنى أن الحزب والجبهة الوطنية التقدمية يقودون المجتمع وليس هو الوحيد, ربما يقود العملية لوحده لأن «أحزاب الجبهة » الأخرى ليست مفعلّة, وذلك لضعف وخلل فيها, أو لتكلؤها ولانسحابها واكتفائها بالاسم والرمز, والمكتب, والتسمية, والتوقيع, حتى الحزب لم يكن هو الذي يضع السياسات الاقتصادية كما يشتهي وتريد القواعد الحزبية, وإن كان قد أقر مبادئ اقتصادية سياسية, اجتماعية وهي إيجابية، ونحن البعثيين نقرها ونعتبرها سليمة وصحيحة, إلا أن تنفيذ سياسات الحزب خلال الفترة الماضية, وتنفيذ مقررات المؤتمر العاشر للحزب, وتنفيذ توجهات الحزب لم تكن بالشكل المطلوب, ولم يكن التنفيذ موازياً لهذه السياسة, وقد كان التنفيذ أحياناً يشوه السياسات, إضافة إلى أن التنفيذ كان جزئياً في بعض جزئيات المؤتمر القطري العاشر.
عن بورصات وأسواق
الخميس 2011-10-13
13:26:08