باريس المستقبل ..
لم الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يدمّر البيئة التي يعيش بها؟ ما السبب؟
تتعدد الإجابات؛ إنه عدم الاهتمام ونقص التعلم والجهل ما يجعل من الإنسان العدو الأكبر للطبيعة. فهو لم يتعلم أو ربما قد نسي كيف يعيش بانسجام وتوافق مع الطبيعة، لذا علينا أن نبدأ طريقنا في استعادة صداقتنا مع الطبيعة من التعلم، فالبيئة هي المعيار الذي يكشف مستوى حضارة المجتمع.
باختصار استعادة الطبيعة تبدأ من تحسين المجتمع والأفراد، فالمستقبل يعتمد علينا!
بهذه الكلمات أقنع كلٌّ من الأخوين دانيل وماكسيمليان زيلينسكي لجنة تحكيم مسابقة المدينة الحية التصميمية الرامية لتحديث باريس، والتي جاءت بتنظيم من المعهد المستقبلي للعيش الدولي بالتعاون مع الأمانة الوطنية للمحافظة على المعالم التاريخية.
وقد تمثّل التحدي الأكبر أمام كلاً من المصممين في تصوّر كيفية تحويل بلدات ومدن حقيقية في المستقبل بما يعكس طبعاً أعلى المعايير البيئية، الأمر الذي ازداد صعوبة مع وجود منافسة قوية من أكثر من ثمانين فريقاً عملوا على إعادة تصميم 69 مدينة من 21 بلداً.
إلا أن ما أثار دهشة لجنة التحكيم في مقترح الأخوين كانت قدرتهما على جمع الاحترام الشديد لتاريخ وثقافة المدينة العريقة مع منهجيةٍ عملية يمكن تطبيقها ضمن السياقات التي لا تعد ولا تحصى، حيث يعلق الحكام قائلين "ابتكر دانييل وماكسيمليان تداخلاً أنيقاً للحلول التصميمية مع استراتيجيات واقعية، الأمر الذي أوصلهما إلى هدفهما النهائي بطريقةٍ احتضنت الحاضر وخلقت أرضيةً خصبة لتفاعل الناس مع الطبيعة عوضاً عن إظهار كيف يمكن "للعالم الطبيعي" أن يطغى على البيئات العمرانية."
فحسب رؤية المصممين تتمتع مدينة باريس بمزيجٍ مناسبٍ من الكثافة والارتفاع يسمح لأبنيتها بالتقاط وتدوير ما يكفي من المياه لتوليد طاقة كافية للاستخدامات الداخلية للمباني نفسها. وبالاستفادة من هذه الكثافة يمكن خلق مجتمعات تستهدف المشاة حيث يمكن للناس التمتع بالمشي أو ركوب الدراجات الهوائية لقضاء حاجياتهم اليومية.
يهدف المصممان عبر مشروعهما إلى القضاء على استخدام وسائل النقل المعتمدة على الوقود وتقديم أنظمة نقل كهربائية تستمد كهرباءها من مصادر متجددة، وبما أن طرق باريس تمثل 19% من مساحة مناطقها، قرر المصممان نقل نظام الطرق إلى أسفل الأرض مما يجعل الشوارع مخصصة للمشاة؛ لتشغل الحدائق والمنتزهات ومضامير الدراجات الهوائية مكان أنظمة الطرق الحالية.
وبالحديث عن الحدائق، يهدف كلاً من الأخوين إلى دمج الطبيعة في حياة الناس اليومية وجعلها أقرب إليهم وأسهل وصولاً؛ بناءً عليه اقترحوا إلغاء فكرة الحزام الأخضر حول المدينة، واستبدلوها بفكرة إقحام مساحات خضراء داخل مركز المدينة، حيث يمكن تنظيم عمليات الزراعة العمرانية على مستوى الشارع وعلى أسقف الأبنية إلى جانب اعتماد الحدائق الداخلية التي ستؤمن لمستخدميها الراحة والخصوصية عدا عن مساحات اللعب الآمنة للأطفال.
وفي نفس السياق، ارتأى المصممان تخفيض استخدام المياه في مدينة باريس الجديدة، إلى جانب حماية نوعية المياه؛ حيث ستعمد أبنية المدينة برؤيتها المستدامة على جمع مياه المطر وتنقيتها وإعادة استخدامها، أما عن مياه الاستخدامات الشخصية فسيتم العمل على تقليلها وترشيدها، في الوقت الذي يتم فيه استخدام المياه الرمادية في عمليات سقاية النباتات والأحواض.
وطبعاً في مثل هذه المدينة "الفاضلة" لابد وأن يتم خفض استهلاك الطاقة ليصل إلى مستوى الصفر، الأمر الذي سيتم التوصل إليه عن طريق إنتاج طاقة متجددة وزيادة الفعالية وتخفيض الاستهلاك الإجمالي؛ فعلى سبيل المثال سيساعد التخطيط الجيد والعزل المحكم وتقنيات التظليل الحديثة على تخفيض الحاجة للإنارة والتدفئة والتبريد، كما سيتم اعتماد أساليب التهوية والإنارة الطبيعية في كل مكان، هذا عدا عن استخدام أنظمة الطاقة الشمسية وأنظمة الجمع والالتقاط الشمسية التي ستغطي أسقف الأبنية والكتل وستساهم في جعل المدينة مكتفية ذاتياً.
أما عن مواد البناء فطبعاً ستكون مستدامة وآمنة وغير سامة، كما سيتم استحضارها من مصادر مرخّصة وسليمة كلياً. وليس هذا وحسب، إذ ستتم عمليات استخراج وتصنيع المواد في مواقع قريبة من مواقع البناء لتخفيض تكلفة النقل، في حين سيتم تصنيع عناصر البناء بعيداً عن المواقع لتقليل نسبة النفايات ورفع مستوى إعادة التدوير ورفع جودة العناصر وتقليل الضجيج والغبار.
وبفضل استخدام مواد عالية الجودة سيتم طبعاً تقليل كلفة الصيانة، بينما سيتم فرز وإعادة تدوير المواد الزائدة والنفايات الناتجة عن العمليات الإنشائية.
إلا أن تحفة هذا المقترح فتكمن في إدراكه لنقطة هامة للغاية؛ حيث اكتشف المصممان أن مستقبل الاستدامة لا يقوم على الممارسات البيئية وحسب، وإنما يعتمد بشكل أساسي على الثقافة البيئية؛ وفي سبيل ذلك، ارتأى الأخوان إطلاق برنامج تحت اسم "المنزل المفتوح" أو “Open house” يستقبل الزوار القادمين للتعرف على المعالم المعمارية والأبنية الإبداعية، وهناك يتعرف الناس على التقنيات الحديثة ويتعلمون كل ما يريدون معرفته عن التصاميم البيئية، فبمجرد التجول داخل ممرات ومنحنيات هذا المعرض سيرتفع مستوى الوعي لدى الناس، وسيكتسبون الثقافة البيئية المستدامة التي تنقصهم
باختصار وبكلمات المصممين، يحاول المشروع "أن يثبت أن المدن الجديدة ليست وحدها المستفيد الأكبر من تحدي البناء الحي، ولكن أيضاً مدن أخرى موجودة ومتطورة جداً مثل مدينة باريس يمكنها أن تستفيد أيضاً، إنها فرصة هامة لتطوير مدننا الموجودة وجعلها أنموذجاً تحتذي به المدن الجديدة الناهضة؛ وهدفنا نحن أن نطور معايير العيش وأن نخلق بيئة جميلة ومستدامة للأجيال القادمة، ومشروع "باريس المستقبل" هذا سيتطور بالتشجيع الحقيقي في محاولة لجعل باريس مدينة بيئية مستدامة، ولذلك ما من خطرٍ عليها في أن تفقد جاذبتنها."
ختاماً نشير إلى النقاط الأساسية التي سترشد العدالة الاجتماعية والتجديد في المدينة حسب رؤية المصممين وهي:
• النقل المجاني لذوي الاحتياجات.
• مفروشات الشارع.
• الوظائف العامة كالساحات العمرانية والحدائق والمراكز الترفيهية والثقافية والتسوق ومتاجر الخضراوات القريبة.
• عدم الاعتماد على أية وسيلة مواصلات
• توفير وظائف اجتماعية سهلة الوصول.
• تواجد الساحات والنوافير والمدرجات والمرافق الاجتماعية والتعليمية وحضانات الأطفال العامة والمدارس ومراكز الاستجمام والمكتبات والكنائس، وما إلى ذلك.
• توفير وصول للتكنولوجيا والانترنت.
• ارتباط المجتمعات بالطرق الخضراء
• العمل على تقريب الناس والمجتمعات من بعضها البعض.
هذه كانت رؤية الأخوان زيلينسكي عن "باريس المستقبل"، فهل من رؤية لدينا عن مستقبل وطننا العربي؟
ترجمة وتحرير مي الصابوني
"البوابة العربية للأخبار المعمارية "