د.ميشيل حنا
نشأت البراجماتية في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر، حيث ظهر هذا اللفظ للمرة الأولى في مقال لـ"تشارلز بيرس" عام 1878، وهي مذهب أو معتقد فلسفي يتميز بالتركيز على العواقب والنفعية والعملية، ويعتبرها المكونات الحيوية للحقيقة.
اشتقت كلمة البراجماتية من اللفظ اليوناني (براجما) وتعني "العمل". ويعرّفها قاموس "ويبستر" بأنها: تيار فلسفي أنشأه "تشارلز بيرس" و"وليام جيمس" يدعو إلى أن حقيقة كل المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة العلمية.
تهدف البراجماتية إلى إثبات أن المبادئ البشرية والذكاء البشري يعبران عن الواقع، وعلى هذا فهي تقف ضد مفاهيم المدارس الفلسفية التي تؤمن بالمنهجية والعقلانية.
يطلق على البراجماتية أحيانا "النفعية"، ذلك أنه يعتقد أنها تؤمن بأن الشيء النافع أو المفيد بطريقة عملية هو فقط الشيء الحقيقي أو الذي يجب وضعه في الاعتبار، وهو أيضا أي شيء يمكن أن يساعدنا على البقاء على قيد الحياة في المدى القصير. ذلك الاعتقاد غير دقيق في الحقيقة، ذلك أن البراجماتيين يعتقدون أن ما يمكن وصفه بالحقيقي هو ما يمكن أن يساهم في جعل أكثرية البشر في حالة جيدة لأطول فترة زمنية ممكنة. كما تختلط البراجماتية أحيانا مع العقلانية، إلا أن هناك فرقا جوهريا بينهما: حيث تعتبر البراجماتية أن الحقيقة أو التجربة أو الواقع يتغير، بينما ترى العقلانية أن الحقيقة قائمة منذ الأزل!
البراجماتية لا تعتقد بوجود حقيقة مستقلة، فالحقيقة هي مجرد منهج للتفكير، فحقيقة اليوم قد تصبح خطأ الغد؛ كما أن المنطق والثوابت التي ظلت حقائق لقرون ماضية ليست حقائق مطلقة، بل ربما أمكننا أن نقول: إنها خاطئة. يعني ذلك أن البراجماتية لا تقوم على معانٍ عقلية راسخة أو تصورات مسبقة. فهي لا تدعي وجود معتقدات ثابتة تزعم أنها وحدها هي الصحيحة دون ماعداها، وإنما ترتبط بالواقع التجريبي، وتنظر بعين الاعتبار إلى ما هو جزئي بدلاً من الاقتصار على النظر إلى الكليات. فالفلسفة البراجماتية لا تهتم بالانتهاء إلى نتائج فلسفية معينة، بقدر ما تهتم بطريقة البحث الفلسفي نفسه. إنها ليست فلسفة ذات معتقدات ثابتة أو مبادئ محددة لا تحيد عها.
يمكن أن نقول إن البراجماتية هي نسق يختبر صحة كل المفاهيم الأخرى من وجهة نظر عملية، وتؤكد البراجماتية التصرف المباشر والعملي لمواجهة التحديات في المواقف المتغيرة، حيث إن الصحيح في ظرف معين يصبح غير صحيح في ظرف آخر. والبراجماتية طريقة أمريكية لمواجهة ظروف الحياة، ويرى الأمريكيون أن ازدراءهم للأيديولوجيا واعتبارهم للتسوية والحلول الوسط ذات الصفة البراجماتية قد حافظ على وجودهم كأمة وحقق لهم الأمن في مجتمع حر.
يقول "ويليام جيمس" عن البراجماتية: "إنها تعني الهواء الطلق وإمكانيات الطبيعة المتاحة، ضد الموثوقية التعسفية واليقينية الجازمة والاصطناعية وادعاء النهائية في الحقيقة بإغلاق باب البحث والاجتهاد. وهي في نفس الوقت لا تدعي أو تناحر أو تمثل أو تنوب عن أية نتائج خاصة، إنها مجرد طريقة فحسب، مجرد منهج فقط".
أما "ديوي" فيصف البراجماتية بأنها "فلسفة معاكسة للفلسفة القديمة التي تبدأ بالتصورات، وبقدر صدق هذه التصورات تكون النتائج، أما البراجماتية فهي تدع الواقع يفرض على البشر معنى الحقيقة، وليس هناك حق أو حقيقة ابتدائية تفرض نفسها على الواقع".
تضع البراجماتية وزنا للاعتبارات الشخصية في عمليات المعرفة كافة، وترى أن المنطق يستند في الأساس إلى علم النفس. هذا الموقف الذي يقيم وزناً رئيساً للعامل الشخصي في عملية المعرفة يتناقض والنظرية التقليدية في المعرفة التي تصر على أن عملية الإدراك مستقلة ولا تستند بالضرورة إلى رغبات وغايات الفرد، رغم أنها لا تنكر وجود هذه الرغبات والغايات.
وترى البراجماتية أن التفكير لا يبدأ إلا حيث توجد مشكلة يراد حلها. فالتفكير ليس مجرد عملية تلقائية، لأنه لا يوجد إلا حيث تكون هناك حاجة ومناسبة تدعو إليه. ومقياس نجاحه هو في مقدار قدرته في التغلب على المشكلة أو قدرته على أن يبدد الشك والحيرة. والوظيفة الأولى للتفكير هي حل المشكلة التي نواجهها، فإن الأفكار هي أدوات ننجز بواسطتها بعض النتائج المرغوب فيها. فالأفكار تساعدنا على أن نعمل شيئاً، أقرب إلى النجاح أفضل مما لو كنا نعتمد على الغريزة أو الاندفاع العاطفي وحدهما. مما يعني أن الأفكار لا تكون أفكارا حقيقية إلا إذا كانت أدوات نستعين بها في حل المشكلات.
يعتبرها البعض امتدادا لأفكار "داروين" عن التطور، ولعلم الإحصاء الذي استطاع أن يثبت أن هناك نوعا من النظام في الأمور التي تبدو فوضوية وعشوائية، وللديمقراطية الأمريكية، وبصفة خاصة الحرب الأهلية الأمريكية كوسيلة لرفض المطلق والمعايير المزدوجة. والملاحظ أن هناك الكثير من أوجه التشابه بين البراجماتية ومذهب البوذية، خاصة مفهوم "الكارما". لكن الشيء المؤكد هو أنه على مدى التاريخ، كانت البراجماتية هي الإسهام الأمريكي الوحيد في علم الفلسفة.