أبجدية الوجوددراسة في مراتب الحروف ومراتب الوجود عند ابن عربي
للمؤلف: د. أحمد بلحاج آية وارهام
شجرة الحروف … شجرة الوجود
بالحرف نفهمُ الوجودَ، ونكتشف مُعَمَّيَاتِه ومُلابساتِه، فالوجودُ حرفٌ، والحرفُ وجودٌ، فَهُمَا مَعًا يَتَمَاهَيَانِ، وهما معًا يتبادلان الأدوارَ في مرآة الحياة والذاكرة والدين والأسطورة والمخيالِ، وفي فضاء الترميز بالقوة القَوَوِيَّةِ والتجريدِ المتعالي.
وإذا كانت حبَّةُ الرمل تختزنُ الصحراء وتؤشِّرُ عليها، وقطرةُ الماء تختزلُ البحرَ وتُومِيء إليه، ونَبْضَةُ العطرِ تَحُوزُ الأزهارَ وتدل عليها، فإن الحرف هو كذلك يُمثلُ كثافة الوجود في أعالي أعاليها، فهو الشجرة الرامزة إليه أٌونْطُولُوجيًّا. فمن هذه الشجرة خَرَجَ الأمر الإلهي، فصار كونًا ووجودًا هو عبارة عن شجرة الكون التي يُمثل كل جزء من أجزائها حركيةَ الوجود، وتوهجَ اختلافاته، وتناغمَ إيقاعاتِه، وتشابـكَ دلالاته.
وقد ستر الله تعالى شجرةَ الحروف هاته بثلاث شجرات؛ هي:
1- شجرة العلم
2- شجرة العمل
3- شجرة الحَالِ
فالعلمُ من العدم إلى الوجودِ والشهودِ، والعملُ من الشهادة إلى الغيب الذي هو باب العدم، والحالُ من العلم والعمل إلى النِّسبَة التي هي آخر الظُّلمة. فالإنسان يخرج من العدم إلى الوجود بالعلم، ويَدخل في الغيب بالعمل، ويَخرج من الظلمة بالحال، فإذا كَمُل فيه العلمُ والعملُ والحالُ قطع الله عنه أغصان هذه الثلاثة، فيصير عالمًا مُخبِرًا عن وجود أشياء كانت في معلوم الله قبل خلقها (1)، وبذلك يكون مُحيطًا بشجرة اليقين التي هي شجرة الحروف المنخرقةُ إلى الكشوف، حيث الأَلِفُ سِينُ سكينةٍ، والياءُ سِينُ سَلاَمٍ، يُثمِرَانِ لاَمَ اللقاءِ في عالم الالتقاء(2)؛ الذي هو الوجود.
فالوجود حرفٌ لا تكون الكتابةُ إلا به، والخَلقُ كتابة، والكتابةُ غرسٌ، والغرسُ نفْسٌ، والنفسُ وجودٌ. وهكذا تبتدئ دائرة الوجود بالحرف وتنتهي به وإليه. وخَلْقُ آدَمَ وتركيبُه له دلالة على هذا المنحَى، فهو تركيبٌ على الحروف والأسماء، فالعِلمُ بالأسماء موضوعٌ في قلبه، وتصويرُها في صدره، وتعبيرُها فيما بين حلقه إلى شفتيه، فالقلبُ طرَفٌ للعِلم، والصدرُ طرَف للتصاوير، والفمُ طرَف للتعابير. وقد أَدَّى هذا التركيبُ إلى أن تُرَكَّبَ للحروف أدوات، وأن تكون الحروفُ منقسمة على هذه الأدوات؛ التي هي الحلقُ واللهاةُ واللسانُ والأسنانُ والشفتان. ومن هنا قال علي d: لا يكون كَلاَمٌ حتى يجري على سَعَةِ الحَلق واللهاة واللسان والأسنان والشفتين، لأن حروف العربية الثمانية والعشرين منقسمة على هذه الأدوات، فحروفُ الحَلق جُزءٌ، وحروف الأسنان جزء، وحروف اللسان جزء، وحروف اللهاة جزء، وحروف الشفتين جزء. وإنما قيل إنها تسعة وعشرون لكون حرف(لا) يتكرر، وهو في الحقيقة حرفان مقرونان (=لامٌ وألفٌ).
إن في حروف المعجم عِلْمَ البَدْءِ كُلِّهِ، وصفاتُ الله وأسماؤه من صورةِ حروفِ المعجم، وصورة ( أ ب ج د)، وفيها علمُ التدبير من لدن نشأة آدم إلى يوم الوقت المعلوم. فأولُ ما بدأ من العلم أسماء الله تعالى، وأولُ أسمائه (الله)، ثم الأسماء كلها بعد ذلك منسوبة إليه ولله الأسماء الحسنى (3).
وإذا كان تركيبُ آدم قد تَمَّ على تركيب الحروف والأسماء فإن في ذلك ترميزًا إلى أنه هو وسلالته يُشبهان في حياتهما حروفَ الأبجدية في بدايتها ونهايتها، فهُماَ يدخلان إلى هذه الحياة على شكل ألفٍ، ويخرجان منها على شكل ياء، حيث يُدْرَجَانِ في النقطة التي هي أًصلُهما.
إن هذا التركيب كان على صورة الله، والصورة هنا هي صورة اسمه «الله» المُرَكَّبة من الحروف، فآدمُ ونسله كله هو على هذه الصورة، وتُبيِّنُ ذلك قراءة جسده سيميولوجيا. فإذا تمدد أي آدميٍّ على ظهره ورفع رجليه إلى الأعلى ملتصقتين على شكل ألفٍ، ورفع كذلك يديه إلى الأعلى منفصلتين على شكل لاَمَيْنِ، وأَبْرَزَ رأسه، فإن شكله سيكون على صورة كلمة «الله». ومن هنا كان تكريمُ الإنسان، وكانت هذه الصورة هي الاعتقاد في الله الذي يخلقه الإنسان في نفسه من نظره وتوهمه (4)، ومن هنا كذلك كانت النبوة الخاتمة، إذْ كما خلق الله آدم على صورته بَدْءًا خلقه كذلك على صورة محمد خِتامًا. والقراءة السيميولوجية توضح هذا: فكل إنسان تمدد على جَنبه الأيمن أو الأيسر، وجمع يديه على صدره، وبَاعَدَ بين ساقيه، فإن شكله سيكون على صورة كلمة «محمد» فالرأس ميمٌ، والصدر مع اليدين حَاءٌ والعَجُزُ ميمٌ، والساقان المنفرجتان دالٌ. فقد « كَمُلَ خلقُ آدَمَ على صورة اسم الله وعلى صورة اسم محمد «(5)، غير أن محمدًا « كان هو الأولَ بالقصد، والآخرَ بالإيجادِ والظاهرَ بالصورة، والباطن بالسُّورة (=المنزلة)»(6).
إنه سِرُّ الحرف الذي خلق به الله الكون والكوائن، وأودعه في طبع الإنسان الذي أوجده على صورته بكلمة « كُنْ»، وحظ المخلوق من كلمة « كن « ما علم من حروف الهجاء، فالله جعل فيه مجموعَ رقائق العالم كله. فمن الإنسان، إلى كل شيء في العالم، رقيقةٌ واحدة ممتدة، ومن تلك الرقيقة يَكون ذلك الشيء الذي أودعَه الله في الإنسان، وأمَّنَه عليه، فبهذه الرقيقةِ يُحرِّك الإنسان كل شيء إلى ما يريده، فما من شيء إلا وله أثر في الإنسان، وللإنسان أثرٌ فيه. إذ الكون كله شجرة حروف، أصلُ نورها في حقيقة «كُن» (7). وكلما أَوْغَلَ المرء في هذه الحقيقة امتلك الكون، وصارت في يده شجرة حروفه يهزها كيف يشاء، ويُصرِّف ظلالها أَنَّى شاء.
ولهذا الاعتبار كان الصوفية هم أول من بحث في إشكالية الأبجدية وعلاقتها بالوجود، وعَبَرُواْ بها من فضاء الظاهر إلى فضاء الباطن في أُنظومة تتغيا العُمـقَ الأونطولوجي والبُعدَ الإبِّيسْتِيمُولُوجِي، بَعِيدًا عن السكَن في الغُرَف التي تتنَفَّسُ فيها أبجديات الظاهر بزَمنِه المستبِّد، مُعتَبِرينَ أن الزمن ليس أصلا في الحق، وإنما هو أصل في الكون، وزمنُ الإنسان هو ما في نفسِه. ومن ثمة كانت الأبجديات التي ينفتح أفقها على النفعِ أبجديات قاصرةً وغيرَ سالكة كالأبجدية المُعجمية، والأبجدية الفلَكية والأبجدية العدَدية، والأبجدية السيمائية، وذلك لأن مرجعياتها مقتصرة على النهائي، أما الأبجدية التي ينفتح أفقُها على ماهيةِ جوهرِ الجوهرِ فهي السالكة، لأن مرجعيتها متجذرةٌ في اللانهائي ومفتوحةٌ على الزمني واللازمني.
من هذا المنطلق المشدود إلى اللانهائي خرجت الأبجدية الصوفية (=أبجدية الوجود)، وأورقت شجرتُها على أيدي صوفية كبارٍ كالشبلي والحلاج وابنِ سبعين وابن قسي وابن عربي، والشيخ أحمد البوني، وعبد الكريم الجيلي، والشيخ أبي العباس السبتي، والشيخ أحمد بنعجيبة، والشيخ أحمد التجاني، والشيخ عبد الغني النابلسي، وغيرهم من العارفين الذين رأو الوجودَ مُرتبًا في أبجدية خاصة؛ كل حرف منها يُقابلُ مرتبةً من مراتب هذا الوجود، ويدل عليها بكثافة رمزية، وحميمية قطعية وقد سبق لنا؛ منذ سنوات تَقرُبُ من العقدين؛ أن أشرنا إلى هذا في دراسة بعنوان «تجليات الحرف عن ابن عربي»، وها نحن نفصِّل ما أوجزناه هناك في هذا الكتاب تفصيلاً يستغرق ثلاثة فصولٍ؛ قبلها مقدمة عن شجرة الحروف وشجرة الوجود، وبعدها خاتمة عن عيون من الأصابع. أما الفصول فهي:
الفصل الأول: يتناول شهود الاعتبارات للحروف
الفصل الثاني: يتحدث عن مراتبها وأسرارها
الفصل الثالث: يوضح موازاتها لمراتب الوجود
وختمنا الكتاب بِتَذيِيلَيْنِ: الأول عن دوائر الأفلاك، والثاني عن جدول موازاة الحروف لمراتب الوجود، وبقائمتي المصادر والمراجع والفهرس، سائلين الله أن يُظهِرَ ظاهرنا بسُلطان لا إله إلا الله، ويُحقق باطنَنَا بحقائق لا إله إلا الله.
أحمد بلحاج آية وارهام
في حاضرة مراكش الفيحاء
صانها الله من كل بلاء
تفاصيل كتاب أبجدية الوجوددراسة في مراتب الحروف ومراتب الوجود عند ابن عربي
للمؤلف: د. أحمد بلحاج آية وارهام
التصنيف: المكتبة العامة -> المجموعة الثقافية الكبرى
نوع الملف: pdf
أضيف بواسطة: [email protected]
بتاريخ: 12-11-2024
عدد مرات التحميل: 0
مرات الزيارة: 25
عرض جميع الكتب التي أضيفت بواسطة: [email protected]
عرض جميع الكتب للمؤلف: د. أحمد بلحاج آية وارهام