ابحث عن جذور النزاع، فى أي منطقة من كوكبنا، الذي لا تنتهي الصراعات بين سكَّانه، تجدها لا تزيد – فى الغالب – عن كلمتين، هما : الموارد الطبيعية؛ ولم يعد خافياً على أحد أن البشرية تعانى نقصاً فى هذه الموارد، وتدهوراً فى أحوال كثير منها، بصفة عامة، وموارد المياه ومصادر الطاقة، على نحو خاص؛ على أهمية المياه والطاقة وضرورتهما، للإبقاء على الحد الأدنى من مظاهر الحياة، عند الفقراء، ولصيانة سُبل الرفاهية والحياة المنعَّمة، لدى الأغنياء. وسنقصر حديثنا، الآن، على الطاقة – مع اعترافنا بصعوبة ذلك – فالمتأمِّل لأحوال العالم المعاصر يمكنه أن يبدأ بالتفكير فى متاعب الانتظار فى الصفَّ، من أجل خبزه اليومي، لينتهي فوق سطح الأرض بستين كيلومتراً، حيث غلاف الأوزون المتآكل.. إنها شبكة معقَّدة من القضايا والأزمات، تحيِّر العقل وتُقبض النفس. من هنا، كان احتفالنا بأي بادرةِ أملٍ، في انفراج مشاكل البشرية مع البيئة.
إن الإنسان، حتى الآن، لا يزال يعتمد، بشكل أساسي، على أنواع الوقود الأُحفوري، كمصدرٍ للطاقة. لقد استغرق تكوين هذا الوقود، فى القشرة الأرضية، ملايين السنين من عمر الأرض؛ وهو يقترب الآن من النفاد.. لقد استهلكه الإنسان فى مائة عام فقط !. ومصادر هذا الوقود ليست موزَّعة على كل البشر، بل وهبها الله بعض خلقه؛ وهكذا، نشأت علاقة بين من يملكون مصادر الوقود، ومن لا يستطيعون الاستغناء عنه، لإدارة المصانع ومحطَّات توليد الكهرباء. يقول ( بيير جاليه)، خبير الطاقة الفرنسى، ومؤلِّف كتاب (نهب العالم الثالث): إنها علاقة اتِّكالٍ مطلق؛ فالعالم الصناعي الغربي يعتمد على النفط، للحصول على 55% من مجموع الطاقة اللازمة له؛ والجانب الأكبر من هذا النفط يأتي من دول العالم الثالث. ومن الطبيعي أن تتعرَّض مثل هذه العلاقة لتأثير المتغيِّرات السياسية والاقتصادية، فيحرص مالك الموارد على تنظيم استغلالها، وينظر فى أسعارها، بين وقت وآخر؛ وعلى الطرف الآخر، يسعى المستهلك، بكل الوسائل، إلى تأمين استمرار الضخ، لحماية قواعد اقتصاده.
هذا عن طبيعة العلاقات الآنية، المتصلة بقضايا الوقود والطاقة؛ أمَّا على المدى الطويل، فإن التوجُّه الاستراتيجي، لدى معظم دول العالم المتقدم، وبعض النابهين فى دول العالم النامي، يهدف إلى إيجاد مصادر بديلة للطاقة، ويأمل أن تكون نظيفة، فلا تضيف إلى أعباء البيئة أعباءً، وأن تتصف بالتجدد، فلا تنضب أو تنفد. ويحظى الهيدروجين بقدر وافر من الاهتمام العالمي، بصفته وقود المستقبل، الجديد المتجدد النظيف…
والحقيقة، أن التفكير فى الهيدروجين ليس وليد أزمة الطاقة المعاصرة؛ فمن العجيب، أن تجد أديباً روائياً، هو رائد كتابات الخيال العلمي (جول فيرن)، يتنبَّأ، فى روايته (الجزيرة الغامضة)، التي صدرت فى العام 1874 ، بأن العالم، فى (المستقبل)، سوف يعتمد على الهيدروجين كمصدر أساسي للطاقة؛ فحين تُسألُ إحدى شخصيات الرواية، عن مصدر الطاقة التى سيعتمد عليها الإنسان، حين ينفد مخزونه من النفط، ويحرق كل مل لديه من فحم، تجيب قائلةً : " أعتقد أن الماء سيكون هو مصدر الطاقة فى ذلك الزمن، لأنَّ كلاًّ من غازي الأكسجين و الهيدروجين، اللذين يتكوَّن الماء من اتحادهما، يمكن استخدامهما، منفردين، أو متحدين، كمصدر غير قابل للنفاد، يعطى إنسان المستقبل احتياجاته من الحرارة والضوء، وبقدرة تفوق قدرة الفحم كوقود؛ وسوف يأتى يوم، تستغني فيه الغلاَّيات والقاطرات البخارية عن الفحم، وتحتفظ، بدلاً منه، بخزَّانات من مضغوط هذين الغازين، اللذين يحترقان فيولِّدان قوة حرارية هائلة !! ".
هذه (النبوءة) التى جاء بها (جول فيرن) منذ أكثر من قرن من الزمن، آخذة فى التحقق، والاقتراب من الواقع العملي، بخطىً حثيثة؛ وثمَّة دلائل تشير إلى أن العالم ينتقل الآن، فعلاً، إلى ما يمكن أن يسمَّى (اقتصاد بلا كربون)؛ وهو السمة الأساسية فى ملامح قرننا الحالي. إن ذرَّة الهيدروجين سوف تحلُّ محلَّ ذرة الكربون، وهذا – لمن يعرف أبسط قواعد الكيمياء – يعنى أن يحظى العالم بنوع جديد من الطاقة، وفيرٍ، وغير قابل للنفاد، ويساعد على جعل هذا الكوكب مكاناً نظيفاً، يصلح لحياة البشر. إن عصر (الهيدروكربونات) بسبيله للانتهاء، مع تقدُّم السنوات فى القرن الحادى والعشرين.. لقد ساعدتنا الهيدروكربونات فى تحقيق كل هذه الإنجازات العلمية والتقنية التى حفل بها القرن الماضي – شكراً لها – غير أن ذلك كان على حساب صحة البيئة؛ ففي كل سنة من ذلك العصر الهيدروكربوني، الذي لا يزال يعايشنا فى كثير من جوانب حياتنا، ونتطلَّع إلى مغادرته، كان مناخ الأرض يُحقن بكميات من الملوِّثات الغازية، مقدارها : 5 بليون طن من الكربون + 10 مليون طن من الكبريت + كميات أقل من أكاسيد النيتروجين.
نعود إلى حديث الأمل.. إلى الهيدروجين، لنجده واحداً من أكثر العناصر وَفْرةً فى الكون، ويمكن استخلاصه – كما يعرف الكيميائيون، وكما لاحظ (جول فيرن) – من الماء، بسهولة؛ ويقول الواقع الراهن إن عملية تحويل الماء إلى هيدروجين ممكنة، من وجهة النظر التقانية، ونحن بانتظار أن يتمَّ التغلُّبُ على بعض العقبات الاقتصادية، وتوفير احتياطات الأمان، لتصبح مشروعات إنتاج الهيدروجين من الماء حقيقة راسخة، واسعة الانتشار. والمتوقَّع، علي طول سنوات قليلة قادمة، أن يكون الاعتماد فى استخلاص الهيدروجين – للأسف - على طاقة مستمدَّة من الوقود الأحفوري، (الفحم والغاز الطبيعي والكهرباء)، وهى موارد غير نظيفة؛ لذلك، سيكون على العاملين فى هذا المجال أن تتضمن مشروعاتهم خطوطاً إضافية، للتعامل مع أكاسيد الكربون الناتجة؛ إلي أن تخلِّصنا التكنولوجيا المتقدمة، فى القريب العاجل، بإذن الله، من هذه (الورطة) المؤقتة.. والآمال معقودة، بصفة خاصة، على استخدام طاقة متولَّدة فى الوحدات الكهروضوئية، لشقِّ جزئ الماء كهربياً، والحصول على الهيدروجين. ويجرى، فى الوقت الراهن، تطوير وتجريب كافة أنواع الطاقة، التى يمكن أن تنتج الهيدروجين، وقود المستقبل، بمراعاة اعتبارين أساسيين، هما: الجدوى الاقتصادية، ودرجة النظافة.
وقد أثبتت الدراسات أن للهيدروجين ميزات تجعله يتفوَّق على أنواع الوقود التقليدية؛ منها، أن تكاليف نقله وتوزيعه، مقارنةً بالكهرباء – على سبيل المثال – أقل؛ فالأنابيب، التى تقوم بنقل الغاز الطبيعي إلى مواقع الاستهلاك، تصلح – بعد تعديلات بسيطة – لنقل الهيدروجين، فتنخفض تكلفة النقل بنسبة 1 : 8 من تكلفة نقل الكهرباء. وبالإضافة إلى ذلك، فإن قابلية الهيدروجين للتخزين أكبر من الكهرباء. كذلك، فإن معظم، إن لم يكن كل، آلات الاحتراق الداخلي، يمكنها – بتحويرات ميكانيكية غير فادحة – أن تتحوَّل للعمل بالوقود النظيف.. الهيدروجين. وثمَّة ميْزةٌ على درجة كبيرة من الأهمية، هي أن الوحدة من الهيدروجين – وزناً أو حجماً – تعطى كمية من الطاقة أكبر من تلك التى تنتجها وحدة مماثلة من البنزين، بمقدار مرَّتين ونصف المرَّة؛ وتتعاظم قيمة هذه الميزة فى مجال الطيران، بوجه خاص، حيث تحصل المحرِّكات على نفس الطاقة من وقود أقل وزناً.
ومع كل هذه الميزات التى يتمتع بها غاز الهيدروجين كوقود، فإن تكلفة إنتاجه – باستخدام المصادر الاعتيادية للطاقة – لا تزيد عن دولار واحد وأربعين سنتاً، للكمية من الغاز التى تكافئ، فى إنتاج الطاقة، جالوناً من البنزين. ومهما كان ارتفاع التكلفة، بعد تطويع تقانيات متطورة لتحليل الماء كهربياً، أو لاصطياد الهيدروجين – مباشرةً – من الهواء الجوى؛ فإن التكلفة غير المنظورة ستكون أقل من تكلفة إنتاج الطاقة من الوقود الأحفورى، إذا أضفنا للأخيرة تكلفة الأعباء البيئية والاجتماعية.
إن منطق التطور يؤكد أن الهيدروجين سوف يحتل مكانة الوقود الأحفورى، كما سبق أن حلَّت الإضاءة الكهربية محلَّ الإضاءة بالزيت، وكما سبق أن أخلت الآلات البخارية الميدان لآلات الديزل. قد تكون التكلفة عالية، نسبياً، فى البداية؛ ولكن الهيدروجين قادم، لا محالة !.
الاستاذ رجب سعد السيد كاتب وباحث مصري مهم في شئون البيئة والعلم.